نواصل حديثنا عن الأدعية المباركة، ومنها: دعاء "الجوشن الكبير" ، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدثك الآن عن احد مقاطعه الذي ورد فيه "يا مَنْ هو في حكمته عظيم، يا مَنْ هو في احسانه قديم، يا مَنْ هو بمن اراده عليم" ... بهذه الفقرات الثلاث ينتهي احد مقاطع الدعاء،... ويعنينا ان نحدثك اولاً عن فقرة "يا مَنْ هو في حكمته عظيم" ... وهذه العبارة ترتبط بما سبقتها وهي عبارة "يا مَنْ هو في عظمته رحيم" ... حيث حدثناك عنها "في لقاء سابق" ولكن الموضوع مادام مرتبطا فيما بين هاتين العبارتين من خلال مفهوم "العظمة" التي تكررت مرتين، مرة وردت في سياق ان رحمته عظيمة، ومرة في سياق انه تعالى حكيم في "عظمته" وفي حكمته "عظيم" مقابل "في عظمته رحيم" ... ترى ما هي النكات الدلالية التي ينبغي ان نستخلصها من هاتين العبارتين؟
*******
لا ترديد في ان الله تعالى "عظيم"، والعظمة هي عنوان يتدرج ضمنه كل صفاته تعالى، بمعنى انه "عظيم" في قدرته، في علمه، في حلمه في ارادته، في رحمته،... الخ "وقد اشرنا الى هذه الظاهرة في لقاء سابق" ولكن الجديد في الموضوع هو: ان الله تعالى في عظمته "رحيم" اي: ان عظمته التي تغمر جميع الظواهر في شتى الميادين، شدد الدعاء في "الرحمة" من العظمة المذكورة، بمعنى ان عظمته في المقام الاول هو الرحمة حيال عباده، وهذا هو منتهى ما يمكن تصوره من رحمته تعالى،... وهل غير الرحمة من الله تعالى نتطلع اليها؟... واما العبارة الثانية، فان "العظمة" ربطها مقطع الدعاء بالحكمة فقال "يا مَنْ هو في حكمته عظيم" ولم يقل"عظيم في حكمته" كما قال "رحيم في عظمته، في رحمته عظيم"... فما سر ذلك؟
*******
مادمنا قد استخلصنا ان رحمة الله تعالى هي: العنوان الاشد خطورة في تطلعنا الى رحمته تعالى، حينئذ نتجه الى "الحكمة" الالهية في مطلق صفاته التي يتعامل من خلالها مع الوجود، وفي مقدمته: حكمة الاختبار او الامتحان او الممارسة العبادية التي خلق الله تعالى الانسان من اجلها، حيث لا تنفصل عنها "الرحمة" و"الحكمة"، بمعنى انه تعالى "حكيم" في عظمته وعظيم في رحمته، بالنحو الذي اوضحناه.
*******
بعد ذلك نتجه الى عبارة "يا مَنْ هو في احسانه قديم"... فماذا نستخلص منها؟ الجواب: مادامت رحمته تعالى مجسدة لعظمته، ومادامت الحكمة هي: المجسدة لإبداعه تعالى، حينئذ فان الرحمة واجد تجسيداتها المهمة ونعني، بها: الاحسان تظل فارضة فاعليتها أزلياً،... وعبارة "قديم" تعني: الأزلية كما هو واضح... وهذا ما يضفي على مفهوم الرحمة احد مصاديقها الاشد بروزاً في تطلعاتنا الى عظمة الله تعالى، ونعني بها "الاحسان" من الله تعالى ازلياً حيث لا وجود لما يضادها وهو الإساءة، اي: نحن مع ما هو ايجابي ازلياً مقابل ما هو السلبي من سلوك البشر مثلاً... اذن: ادركنا دلالة ما تعنيه عبارة "يا مَنْ هو في احسانه قديم"... وتبقى العبارة التي يختم بها المقطع الدعاء المذكور، وهي "يا مَنْ هو بمَنْ ارادة عليم" تري: ما هي الاستخلاصات التي يمكن لنا ان نتبينها من العبارة المتقدمة؟
*******
في تصورنا، ان العبارة المذكورة، وتعني بها "يا مَنْ هو بمن اراده عليم" تنسحب على جملة دلالات، الاستخلاص الاول هو: لا ترديد في ان الرحمة، ومفردتها التي ابرزها الدعاء ونعني بها الاحسان، لا تنفصل عن مستوى الممارسة العبادية للانسان، حيث لا يستوي الذين يعلمون مع الذين لا يعلمون، وحيث لا يستوي المؤمن مع الفاسق، وحيث لا يستوي المتقي مع المنحرف... الخ... وحينئذ، فان الله تعالى تبعا لحكمته يتعامل مع عباده بقدر تعاملهم الايجابي مع الله تعالى، حيث يعلم هو مدى الصدق او درجته مقابل من يتظاهر او يتراءى أو مقابل الظاهر الذي يعرفه الآخرون ولكن الله تعالى، هو العارف صدق ذلك او كذبه... الخ... اذن:نستخلص مما تقدم بان الله تعالى هو العالم بسرائر العبد، ويتعامل تعالى خلال احسانه بقدر احسان العبد، حيث يقرر تعالى "وهل جزاء الاحسان إلا الإحسان".. "سائلين الله تعالى ان يوفقنا الى ممارسة الطاعة، والتصاعد بها الى النحو المطلوب.