لا نزال نحدثك عن الأدعية المباركة، ومنها دعاء (الجوشن الكبير)، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدثك الآن عن أحد مقاطعه الذي ورد فيه: (يا اعلم العالمين، يا اله الخلق أجمعين).
بهاتين الفقرتين يختم مقطع الدعاء، لنواجه بعد ذلك مقطعاً جديداً، والآن نحدثك عن العبارة الاولي (يا أعلم العالمين)، هذه العبارة جاءت في سياق انه تعالي (أقدر القادرين)، حيث تتجانس مع عبارة (أعلم العالمين)، بصفة ان القدرة والعلم هما من ابرز صفات الله تعالي، حيث ان القدرة تتواكب مع العلم في ابداع الظواهر الكونية، ما دمنا ندرك تماما ان ما ابدعه تعالي هو: في صالح عباده، ومسخر لهم: كما هو صريح النصوص القرآنية والحديثية ومما يضفي جمالية اخري علي تجانس موضوعات المقطع من الدعاء هو خاتمته التي تقول: (يا أله الخلق اجمعين). تري، ماذا نستلهم من العبارة المذكورة؟
ان الله تعالي عندما يوصف بانه (اقدر القادرين)، ثم (اعلم العالمين)، مادام مجسدا لمفهوم الابداع الكوني وتسخيره لعباده، حينئذ فان الله تعالي يظل (اله الخلق اجمعين): البشر والملائكة وهذا الختام يتسق - كما اشرنا - مع سياق المقطع، حيث يستخلص قارئ الدعاء دلالة مفهوم التوحيد ومعطياته بالنحو الذي اوضحناه.
ونتجه الي مقطع جديد علي النحو الآتي: (يا من علا فقهر، يا من ملك فقدر، يا من بطن فخبر، ...).
تري ما هو الجديد في هذا المقطع من حيث دلالته واسلوبه؟
الجديد هو صياغة مظاهر العظمة وفق عرض الصفة ونتيجتها او ما يترتب عليهما، حيث نلاحظ بان المقطع مثلاً عندما يقول: (يا من علا) انما يتحدث عن صفة (العلو)، ثم يرتب علي ذلك نتيجته وهي كلمة (فقهر)، ومن الطبيعي ان تتسق المقولة والنتيجة، فالعلو يستتبع القهر بطبيعة الحال، ولكنه قهر توحيدي أو الهي بخلاف القهر البشري، ان القهر الالهي تعبير عن عظمته التي يقهر بها كل شيء بحيث يتفرد تعالي بحكمه وتقديره، وهذا ما يتسق مع العبارة الثانية من المقطع، حيث قال المقطع (يا من ملك فقدر)، فمادام تعالي يقهر الوجود بعلوه، حينئذ فان ملكه أو هيمنته علي ما ملك، يظل مصحوباً بقدرته تعالي علي التدبير والادارة.
بعد ذلك تجئ عبارة جديدة (يا من بطن فخبر). تري ماذا نستلهم منها؟
سبق ان اوضحنا عند حديثنا عن صفتي الله تعالي (الظاهر والباطن)، واوضحنا ان (الباطن) يعني: انه تعالي هو المحتجب عن ادراك الابصار، والافطار، والخواطر، وهو العالم بالسرائر، وبهذا تكون عبارة (يا من بطن فخبر)، تعني: انه تعالي خبير بما هو باطن عند الاخرين، وهو باطن محتجب عنهم، ولكنه خبير بهم.
طبيعياً، ان قارئ الدعاء لابد وان يستلهم من العبارة المذكورة اكثر من دلالة ويفيد منها في تعديل سلوكه فمادام قد بطن تعالي وخبر، حينئذ فان المفروض ان يكون العبد حذراً من ممارسة ما لا يرضاه الله تعالي.
بعد ذلك نواجه عبارة (يا من عبد فشكر)، تري ماذا نستخلص منها؟
واضح، ان الله تعالي شاكر لاقل ممارسة عبادية من عبده، انه يجزي الاحسان بالاحسان، بل يضاعف ذلك، ونعتقد ان قارئ الدعاء عندما يعي بان الله تعالي شاكر لعبده، حينئذ الا يتعين عليه ان يزهو بهذه النعمة، وان يفعل المزيد من الطاعة؟
بعد ذلك تجي عبارة (يا من عصي فغفر)، وهذه العبارة تكملة لسابقتها، فالعبد اذا اطاع شكره الله تعالي، واذا أذنب غفر الله تعالي ذنبه، اذن ما اعظم رحمة الله؟
*******