نواصل حديثنا عن الأدعية المباركة، ومنها دعاء الجوشن الكبير، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدثك الآن عن احد مقاطعه الذي استهل بالعبارات الآتية: (يا حياً قبل كل حيّ، يا حيّاً بعد كلّ حيّ، يا حيّ الذي ليس كثله حيّ، يا حي اذي لا يشاركه حيّ، ...).
هذه العبارات تمثل احد انماط الصياغة الفنيه للدعاء، حيث اعتمدت مظهر (الحيّ) محوراً للمقطع بدأ بعبارة: (يا حياً قبل كل حي، يا حيّاً بعد كل حيّ) حيث تشير العبارتان الي ازليته تعالي وأبديته، وهو ما يتفرد بدقه، ولذلك ورد بعد هاتين العبارتين: (يا حي الذي ليس كمثله حيّ)، بمعني تفرده تعالي بهذه الصفة، وبسائر الصفات التي ترد في المقطع وغيره.
اذن نقف عند عبارة (يا حيّ الذي ليس كمثله حيّ)، حيث ان السابقة عليها (يا حياً قبل كلّ حي، يا حياً بعد كل حي) تشير ان - كما هو واضح - الي انه لم يسبق ببداية ولم يلحق بنهاية وهي: معني الازلية والابدية: كما قلنا.
السؤال الآن هو: ماذا نستلهم من عبارة أو مظهر (يا حيّاً او يا حيّ الذي ليس كمثله حيّ)؟
العبارة - كما نلاحظ - تتضمن تشبيهاً ملفتاً للنظر، اي ان التشبيه بعامة يتضمن اداة هي (الكاف) ونحوها، ولكن الملاحظ ان هذه الكاف قد التحمت باداة تشبيه معروفة مثل قوله تعالي علي لسان أحد ابني آدم (عليه السلام) «....أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ...».
لذلك نتساءل: ما هي النكات الكامنة وراء التحام أداتين من التشبيه في عبارة «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ»؟
عند ما يتفرد الله تعالي بصفاته او بوجوده، حينئذ فان التشبيه اياً كان نمطه ينتفي بطبيعة الحال، اننا عندما نشبّه مثلاً مواراة الجسد الآدمي بمواراة الجسد الحيواني وهو «الْغُرَابِ»: حينئذ فان طرفي التشبيه ينتميان الي العضوية الواحدة وهي: الانسان والطائر، وهكذا سائر التشبيهات ولكن بالنسبة الي الله تعالي فان (تفردّه) وعدم وجود طرف آخر يشترك مع الله تعالي في الوجود او الصفة يعني عدم امكان تصوّر للتشبيه اساساً، من هنا جاءت عبارة (مثل) - وهي اداة تشبيه - نافية وجود المماثل، ولكن تصوّر المماثل ايضاً منتفٍ اساساً، ولذلك جاءت اداة التشبيه (الكاف) تنفي حتي التصوّر وليس الاشتراك فحسب، وهذا هو احد وجوه النكتة وراء العبارة المذكورة. بعد ذلك نواجه عبارة (يا حيّ الذي لا يشاركه حيّ). فماذا نستلهم منها؟
الجواب: يتضح مما قدمناه قبل قليل من الكلام، اي: عدم امكانية وجود او تصور للماثل لله تعالي وهذا ما اوضحته عبارة (يا حي الذي لا يشاركه حي)، فما دام الله تعالي لا مثل له: وجوداً وتصوراً: حينئذ لا يشاركه احد في الوجود والصفة: كما هو واضح اذن: عبارة (يا حي الذي لا يشاركه حي) هي: نتيجة منطقية لعبارة (يا حي الذي ليس كمثله حيّ).
بعد ذلك نواجه عبارة (يا حي الذي لا يحتاج الي حيّ)، هذه العبارة بدورها تجسد جواباً آخر لتفردّه تعالي.
اي بما انه تعالي لا يشاركه احد في صفة (الحبّ) وسائر صفات وجوده، حينئذ فان الحاجة تنتفي الي المشاركة، ويبقي التفرد هو: مصدر الحاجة بالنسبة الي مخلوقاته تعالي.
اذن ادركنا جانباً من النكات الكامنة وراء التعبيرات المذكورة، وسواها من المظاهر الي سنحدثك عنها لاحقاً ان شاء الله تعالي.
*******