نواصل حديثنا عن الأدعية المباركة، ومنها دعاء (الجوشن الكبير)، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدثك الآن عن احد مقاطعه البادئ بما يأتي: (يا من خلقني وسوانّي، يا من رزقني وربّاني، يا من اطعمني وسقاني، ...).
و الآن نبدأ بالعبارة الاولي وهي (يا من خلقني وسوّاني). فماذا نستلهم منها؟
قلنا - في حديث سابق - ان هذه العبارة يطلق عليها مصطلح (التناص) حسب اللغة الأدبية المعاصرة، او التضمين ونحوه، حيث استخدمها الدعاء من خلال ما ورد في سورة الاعلي وهي الآية الكريمة «الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى» حيث ورد في تفسيرها ما مؤدّاه: بأنّ الله تعالي خلق هذا الوجود، واتقن وأحكم صناعته: تعبيراً عن وحدانيته، أو خلق الانسان وعدلّ تركيبته الخارجية، ولم يجعله كالدوابّ، أو خلق كلّ ذي روح فاتقن واحكم يديه وعينيه.
وهذا يعني ان فقرة الدعاء تستهدف لفت نظرناً الي ابداع الله تعالي ورحمته، اما الابداع فالتعبير عن لا محدودية قدرته، وامّا رحمته فلتعديل تركيبة البشر وسواهم.
ومن البيّن، ان النص القرآني الكريم، أو النص الوارد عن اهل البيت (عليهم السلام)، يظلّ - من حيث الاشارة الي مختلف مظاهر الوجود البشري وسواه - موزّعاً في مواقع متنوعة من السور ونصوص الحديث، حيث يرد في كل نصّ ايحاء الي هذا المظهر الابداعي او ذاك: كالشمس وضحاها، والقمر، والليل والنهار والتين والزيتون، والبلد الأمين.
والمهم هو: ان نستحضر دواماً عظمة الله تعالي ورحمته بصفة ان هذه المظاهر تستهدف لفت نظرنا الي قدرته الابداعية من حيث الوجود بعامة، ورحمته تعالي غير المحدودة للبشر وسواهم ممن له روح، مع ملاحظة ان عبارة (خلقني وسوّاني) خاصة بالبشر كما هو واضح. بعد ذلك نواجه عبارة (يا من رزقني وربّاني). فماذا نستخلص منها؟
لقد كانت العبارة الاولي تتحدث عن خلق الانسان واستواء تركيبة، اما الآن فان الدعاء يتحدث عن مرحلة ما بعد الخلق والاستواء البدني ألا وهي: مرحلة الرزق والتربية.
والسؤال المهم جداً هو: لماذا ورد التأكيد علي ظاهرة (الرزق) من جانب، وظاهرة (التربية) من جانب آخر؟
ان استمرارية حياة الانسان لكي يمارس وظيفته العبادية تبعاً لقوله تعالي: «مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ» تتطلب تأميناً لحاجاته الضرورية في استمرار حياته، وهذا ما يتمثل في الرزق من الله تعالي وقد جعل الله تعالي الرزق طالباً صاحبه حتي لا يحجزه العدم والفقر عن ممارسة وظيفته العبادية. واما (التربية) فانها من الوضوح بمكان كبير، لماذا؟
السبب هو ان الممارسة العبادية هي: مجموعة مبادئ من السلوك المرتبط بالأحكام، والعقائد، والاخلاق، اي: مجموعة مبادئ (تربوية) يتربّي عليها الانسان حتي يمارسها بالشكل الذي يريده تعالي.
اذن عند ما تقول فقرة الدعاء (يا من رزقني وربّاني)، انما تستهدف الاشارة الي انه تعالي عندما خلق الانسان وسوّاه، اراد منه ممارسة العمل العبادي، وهي ممارسة تحتاج الي رزق لاستمراريتها، ومبادئ للعمل بها، وهو ما عبّرت الفقرة المذكورة عنها بعبارة (يا من رزقني وربّاني).
*******