نواصل حديثنا عن الادعية المباركة، ومنها دعاء (الجوشن الكبير)، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدثك الآن عن احد مقاطعه، حيث ورد فيه: (يا راحم من استرحمه، يا غافر من استغفره، يا ناصر من استنصره، يا حافظ من استحفظه،...).
ان هذه الاسماء او المظاهر من عظمة الله تعالى، تظل من الوضوح بمكان، وقد سبق ان قلنا انها وردت في سياق خاض هو حالة ما اذا اتجه العبد الى الله تعالى عبر دعاء خاص يرتبط بالعبد، حيث تجئ عبارة (يا راحم من استرحمه)، جواباً للسؤال المذكور، وهو يتميز عن عبارة (يا راحم) وحدها، حيث تشمل الداعي وغير الداعي، اي انه تعالى يرحم عباده بغظ النظر عن دعائهم او عدمه من هنا، فان ما نستهدفه الآن ليس هو: تقرير الحقيقة المتقدمة، بل توضيح البناء الهندسي لهذه العبارات حيث تخضع لتسلسل تدريجي في الرحمة الالهية على عبده، فالبدء بعبارة (يا راحم من استرحمه)، تعني اول الرحمة، ثم تليها مصاديق متنوعة من الموضوعات.
تأتي عبارة (يا غافر من استغفره) بعد عبارة (يا راحم من استرحمه)، وهذا يعني ان اول معالم الرحمة من الله تعالى لعبده السائل بأن يرحمه تعالى هو: غفران ذنوبه، حيث ان الغفران يعني عدم ترتب العقاب على ذلك.
ثم تأتي عبارة (يا ناصر من استنصره) وهي عبارة تطلب من الله تعالى ان ينصره عبده، ومن الواضح ان العبد عندما تغفر ذنوبه، حينئذ فان النصرة من الله تعالى له: تأخذ مسارها الطبيعي، ان العبد يطلب من الله تعالى بان ينصره على ما يشكو منه، سواء اكانت شكواه تتصل بالخوف من معاودة ذنوبه او بالخوف من الشدائد المتنوعة التي يواجهها العبد في حياته.
بعد ذلك تواجهنا عبارة (يا حافظ من استحفظه)، وهذه العبارة من الوضوح بمكان من حيث تجسدها نتيجة للمقدمة السابقة، وهي ان الله تعالى عندما ينصر عبده عبر عبارة (يا ناصر من استنصره) حينئذ فان الله تعالى (يحفظه) من الشدائد التي طلب من الله تعالى ان ينصره عليها، وها هو تعالى يتفضل على عبده بالنصرة، فيحفظه من السوء الذي يتخوف منه، وهو يتجسد في عبارة (يا حافظ من استحفظه).
بعدها تواجهنا عبارة (يا مكرم من استكرمه)، هذه العبارة وما بعدها تتجه الى سياق آخر هو طلب الحماية من الله تعالى لعبده ايضاً، ولكنه طلب خاص يتحدث عن الشدائد ايضاً، عبر اسلوب آخر من طلب الرحمة، يبدأ بعبارة (يا مكرم من استكرمه)، ان طلب الكرامة او طلب منح العبد تقويماً او تكريماً لشخصه من الله تعالى هو استنجاد خاص بصياغة العبد صياغة لها اهميتها المستقاة من العبد بالله تعالى وليس بالآخرين، لذلك جاءت العبارة الجديدة وهي (يا مرشد من استرشده) جواباً لطلب التكريم الذي سبق ان عبرت الفقرة (يا مكرم من استكرمه) عن ذلك.
اي، ان طلب الارشاد منه تعالى، يعني: صياغة الشخصية بشكل تصبح رشيدة، ناضجة، متزنة.
اخيراً ثمة عبارات تبدو وكأنها عودة الى طلب النصرة على الشدائد، وهي (يا صريخ من استصرخه، يا معين من استعانه، يا مغيث من استغاثه)، وفي تصورنا ان هذه العودة هي ـ في الواقع ـ تأكيد جديد على طلب الرحمة او الحماية من الله تعالى لعبده، (وهو ما نحدثك عنه في لقاء لاحق ان شاء الله تعالى).
*******