لا نزال نحدثك عن الادعية المباركة، ومنها: دعاء (الجوشن الكبير)، حيث حدّثناك عن مقاطع متسلسلة منه، وانتهينا الى أحد مقاطعه الذي ورد فيه: (يا عظيم العفو، يا حسن التّجاوز، يا واسع المغفرة،...).
نحن الآن أمام ثلاث عبارات متجانسة او متماثلة في دلالتها، ومتفاوتة أيضاً من زاوية أخرى، ألا وعهي العبارات المرتبطة بعدم ترتيب العقاب على المذنب، وهي: العفو، والتجاوز، والمغفرة.
إن كلاً من العفو والتجاوز والمغفرة تشترك في دلالتها المتجسدة في أن الله تعالى لا يرتـّب عقاباً على ذنوب عباده، ولكن في الآن ذاته نجد تفاوتاً بلاغياً بين العبارات المتقدمة من حيث دقائق هذه الدلالات.
بالنسبة الى كلمة (العفو) فانها تعني (إزالة جميع ما يرتبط بصدور الذنب) اي: كما أن الرياح مثلاً تزيل الآثار الموجودة على التراب، كذلك فإن الله تعالى يعفو عن العبد بحيث لا يبقى أثر لصدوره كما تعفي الريح الآثار الترابية من الطريق والدليل على هذا المعنى هو: ان عبارة (عفا) تعطي هذه الدلالة، أي: تعفي وتزيل الأثر.
وهذا فيما يتّصل بكلمة (العفو)، وقد قرنها النصّ بعبارة تتوافق والدلالة المذكورة، ألا وهي: (يا عظيم العفو)، أي: ان الله تعالى يعفو عن ذنوب عبده بنحو كبير جداً: كما تعفو الرياح الشديدة كلّ أثر من الأرض.
ونتجه الى العبارة الأخرى وهي: (يا حسن التّجاوز)، فماذا نستلهم منها؟
التجاوز هو من (جاز) بمعنى ترك كما يقال (جاز الطريق) أي: سلكه وتركه، وهكذا بالنسبة الى الذنب فإن الله تعالى يترك النظر الى ذنوب عبده لا يرّتب عليها عقاباً، والفارق بين (يتجاوز) وبين (يعفو) هو: إن التجاوز يكون بمعنى غضّ النظر عن الشيء، أي يلاحظه ولكن يتركه شفقة منه على عبده... ولذلك قالت العبارة: (يا حسن التّجاوز) أي: ان تركه تعالى لذنوب العبد يتمّ بشكل هو حسن بحيث لا يلتفت الى الذنب ولا يدقّق فيه.
ونتجه الى العبارة الثالثة وهي: (يا واسع المغفرة)، فماذا نستخلص؟
اولاً: نتساءل عن معنى (المغفرة) وافتراقها عن (العفو) و (التجاوز).
ثانياً: لماذا استخدم الدعاء عبارة (يا واسع) بالنسبة الى المغفرة، بينما استخدم (يا عظيم) بالنسبة الى العفو استخدم (يا حسن)بالنسبة الى التجاوز؟
الجواب: المغفرة هي التغطية والسّترة اي: ان الله تعالى (يستر على العبد فلا يفضحه) او انه جعل غطاء على الذنوب فلم تنشر أمام الآخر، وهذا هو نمط ثالث من عدم ترتيب العقاب على ذنوب العبد. كيف ذلك؟
ان غفران الذنب اذن كان بمعنى (تغطيته) و(ستره) فهذا يعني انه تعالى لم يطلع أحداً على ذنوب عبده، وهنا يكمن الفارق الكبير بين أن يشار الى ذنوب العبد ويطلع الناس عليه ثم يعفو عنه ويتجاوز، وبين عدم جعل الناس أساساً يطّلعون على ذنوب العبد، وهذا هو منتهى الرحمة من الله تعالى، حيث استخدم عبارة (يا واسع المغفرة) ليشير الى حجم الرحمة المذكورة.
إذن أمكننا أن نتبيّن الفوارق بين عبارة (يا عظيم العفو) وعبارة (يا حسن التجاوز) وعبارة (يا واسع المغفرة).
ختاماً نسأله تعالى أن يعفو عنا، ويتجاوز عنّا ويغفر لنا: بعظمته وحسن تجاوزه وسعة غفرانه، وان يوفقنا الى ممارسة الطاعة والتصاعد بها الى النحو المطلوب.
*******