نتابع حديثنا عن الأدعية المباركة، ومنها دعاء (الجوشن الكبير) حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدثك الآن عن احد مقاطعه الذي ورد فيه: (يا قابض كل شيء وباسطه). تري: ماذا يستلهم قارئ الدعاء من الفقرة المذكورة؟ المعنيون بشؤون الدعاء يذهبون الي ان كلمة (القابض) تنسحب علي جملة امور، منها: (الملك) وهذا يتسق مع قوله تعالي: «وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ومن جملة دلالاته: انه تعالي الآمر بقبض الارواح، الاان الدلالة الاشد توهجا هي: انه تعالي قابض للارزاق وفق حكمته،اي: كما انه باسط للارزاق من جانب، فانه قابض لها من جانب آخر بحسب متطلبات الحكمة، وحيث الدلالة تتسق مع مقابلها (الباسط) حيث يتداعي الذهن من ذلك الي انه تعالي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ. بعد ذلك نواجه فقرة: (يا مبدئ كل شيء ومعيده). فماذا نستلهم من الفقرة المذكورة؟ ان قارئ الدعاء لابد وان يتداعي ذهنه من عبارة (يا مبدأ كل شيء ومعيده) الي خلق الانسان واماتته واعادته يوم القيامة، ولعل قارئ الدعاء يتساءل عن النكتة الكامنة وراء فقرة هذا الدعاء المكتفية بعبارة (مبدئ) و (معيد) دون ذكر الوسط الا وهو الاماتة؟ الجواب: في تصورنا، ان الاشارة الي (المبدئ)، تعني: لفت النظر الي ابداعه تعالي واما (المعيد) فتعني لفت النظر الي اليوم الآخر، وما يترتب عليه من الجزاء الايجابي والسلبي، ويمكن لقارئ الدعاء ان يستخلص دلالة اخري وهي: ان البعض من المنحرفين (وهذا ما أكده القرآن الكريم في نصوص متنوعة) يتساءلون عن امكانية (الاحياء)، حيث يجيبهم القرآن الكريم بان الذي خلق الانسان بقادر علي ان يحيي الموتي وهكذا. اذن بمقدور قارئ الدعاء ان يستكشف اكثر من دلالة عبر قراءته لفقرة الدعاء المذكورة. بعد ذلك نواجه عبارة (يا منشيء كل شيء ومقدره). فماذا نستخلص منها؟ الجواب: تنبغي الاشارة اولاً الي الفارق بين هذه العبارة البادئة بمظهر أو صفة (يا منشيء كل شيء) وعبارة (يا مبديء كل شيء) حيث حدثناك عنها في العبارة السابقة ونجيب: ان الفارق من الوضوح بمكان، فالمبديء تعني: ابتداء الشيء او اعادته بعد الانتهاء (كما هو ظاهر في خلق الانسان واحيائه). اما فقرة (يا منشيء كل شيء ومقدره) فنتناول ظاهرة اخري تتصل بتدبير الأمر، وهذا من نحو نشأته تعالي للسحاب مثلاً، وللشمس مثلاً، ولسائر مظاهر الطبيعة، حيث ان انشاءها يرتبط بظاهرة تدبيرها وتكييفها مع الاهداف الكامنة وراءها، فقد اشار القرآن الكريم مثلاً في الآية الكريمة الي هذه الدلالة بقوله تعالي: «وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ» او «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ»، وهو نفس مااقتبسه الدعاء في عبارة (يا منشيء كل شيء ومقدره)، حيث تتضمن معني انه تعالي انشأ كل شيء وقدر نسبته المطلوبة بحيث لوزاد او نقص من الماء أو حرارة الشمس: لاضطرب الوجود: كما هو واضح.
*******