نتابع حديثنا عن الادعية المباركة، ومنها (دعاء الجوشن الكبير)، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدثك الآن عن احد مقاطعه الذي ورد فيه: (يا كنز الْفُقَرَاء، يا اله الأَغْنِيَاء، يا اكرم الكرماء)، بهذه الفقرات الثلاث ينتهي احد مقاطع الدعاء، وهي عبارات متجانسة تتحدث عن احد مظاهر عظمة الله تعالي ورحمته وهو: عطاؤه تعالي، حيث تناول الدعاء ثلاث طبقات هي:الْفُقَرَاء، الأَغْنِيَاء، الكرماء، فوصف ذاته تعالي بانه اكرم الكرماء، حيث ان الكرماء محدودون في قدراتهم المادية من جانب، والله تعالي هو المانح لهم هذه القدرة المتصلة بظاهرة الكرم، والمهم الآن هو ملاحظة هذه العبارات، وصلة بعضها من الاخر، ونقف اولاً عند عبارة: (يا كنز الْفُقَرَاء)، فماذا نستخلص منها؟
العبارة المتقدمة هي: عبارة فنية تنتسب الي ما يطلق عليه مصطلح (الاستعارة) بمعني ان الدعاء خلع طابع (الكنز) علي عطاء الله تعالي للفقراء، وهو: استعارة فائقة يحسن بنا ان نوضحها الآن، (الكنز) - كما نعلم جميعاً - هو: مادة فخمة من النقود او المجوهرات او نحو ذلك، مما يعني: ان الكنز مورد ما لي له قيمته الكبيرة، فاذا خلع الدعاء طابع (الكنز) علي عطاء الله تعالي للفقراء فهذا يعني: ان الْفُقَرَاء لا يحتاجون الي شيء مادام الله تعالي هو الكنز لما يحتاجونه وهذا هو الكرم او الجود بما لا حدود لتصوراته ولكن: لنتجه الي طبقة الأَغْنِيَاء، وهم المقابل للفقراء لنلاحظ الصفة التي خلعها الدعاء علي هذا الجانب.
لقد ذكر الدعاء صفة (اله) علي عطائه المرتبط بالأَغْنِيَاء، فالْفُقَرَاء منحهم تعالي (كنزا) لا يحتاجون الي سواه، ولكن الأَغْنِيَاءماذا منحهم تعالي؟
لقد اوضح بانه تعالي (معبود) الأَغْنِيَاء، بمعني: انه تعالي هو المانح للاغنياء هذه الاموال، حيث لا مصدر للانسان غير (المعبود) الذي خلق الانسان، ومنحه هذا الشيء او ذاك من القدرات المادية والجسمية والعقلية.
اذن ثمة تجانس بين (الاله) وبين الأَغْنِيَاء، كما ان ثمة تجانساً بين (الكنز) وبين الْفُقَرَاء، واخيراً: ثمة عبارة ختم بها مقطع الدعاء، الا وهي (يا اكرم الكرماء) وهي عبارة تتطلب مزيداً من الاضاءة لملاحظة صلتها بعبارتي (يا كنز الفقراء) و (يا اله الاغنياء).
من الواضح ان الله تعالي مادام هو المانح (كنزا) للفقراء وهو المعبود او الا له للاغنياء فهذا يعني: انه تعالي - وليس سواه - هو المصدر لما يمتلكه الفقير من كنز، والغني من قدرات محدودة، واذا كان كذلك فان الله تعالي هو (أكرم الكرماء) بطبيعة الحال، حيث يمنح الفقير والغني ما يتطلعان اليه، وبما ان البشر - ممن منحهم الله تعالي - قدرات مادية وغيرها - محدودون في قدراتهم ثم: بما ان الله تعالي لا محدودية لقدراته، حينئذ فان صفة (أكرم الكرماء) تتجانس تماماً مع هذه الدلالة التي اوضحناها.
*******