لا نزال نحدثك عن الادعية المباركة ومنها (دعاء الجوشن الكبير)، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدثك الآن عن احد مقاطعه الذي يبدأ بهذا النحو: (يا خير معروف ُعرف، يا أفضل معبود عبد، يا أجل مشكور ُشِكر، ...).
اذن لنتحدث عن هذا المقطع، ونبدأ ذلك بالحديث عن عبارة (يا خير معروف عرف)، فماذا نستلهم منها؟
في حديث سابق قلنا: ان هذا المقطع من الدعاء يتضمن صياغة خاصة هي، ان يعرض لمظاهر عظمته تعالي من خلال التفضيل علي ما يمكن فرضاً تصوره، اي: المقارنة بين الله تعالي ومخلوقاته.
ان الله تعالي هو الكامل مطلقاً، اي: لا يمكن تصور ما هو دون الكمال حياله، كما أنه تعالي متفرد في عظمته، اي: لا يشاركه احد في ذلك، فإذا كان الأمر كذلك، حينئذ لا مجال للمقارنة، لأن تفرده تعالي وكماله تعالي لا مجال فيه للمقارنة، بصفة ان المقارنة تحصل بين مشتركين في مظهر ما، ولا اشتراك مع الله تعالي ولكن بما انه الله تعالي هو المشير الي امثلة هذه المقارنة حتي يعمق مفهوم التوحيد في الاذهان، يلوح مثلاً بأنه خير الرازقين، ارحم الراحمين، اي لا أحد يمتلك رحمة او رزقاً كما هو بالنسبة الي الله تعالي، ويظل المخلوق من حيث ان الله تعالي يفيض عليه قسماً من الرحمة مثلاً، عبر مقارنته مع الله تعالي، يظل افصاحاً عن ان الرحمة الحقة، هي رحمته تعالي، وليس الرحمة لدي المخلوق.
في ضوء ما تقدم، نتجه الي عبارة (يا خير معروف عُرف)، فنستخلص منها ان الله تعالي هو صاحب المعروف الحق، فالإنسان المؤمن مثلاً، يصنع المعروف كما لو انفق أمواله في مساعدة الفقراء، ولكن المعروف الصادر عن الله تعالي لا يقاس بمعروف المخلوق، بصفة أن المخلوق لا يملك استقلاليته في معروفه، بل ان الله تعالي هو المصدر له، والمصدر لا شك هو الاصل وليس الفرع، كما أن معروف المخلوق محدود لا يستطيع أن ينفق ما يشاء نظراً للمحدودية المذكورة، من هنا تظل عبارة (يا خير معروف عرف)، تعني:ان لا معروف افضل من المعروف الذي نجده عنده تعالي.
بعد ذلك نتجه الي عبارة (يا خير معبود عبد)، فماذا نستخلص منها؟
من الواضح ان الله تعالي هو المعبود الوحيد، ولكن - كما اشرنا - ثمة فرضيات نسبية يمكننا ملاحظتها ولو علي سبيل المجاز: كما لو قلنا أن الإنسان يعبد المادة مثلاً أو يعبد الجنس او يعبد الجاه، أو حتي من يعبد الاصنام، هولاء جميعاً سواء من يعبد الاوهام أو الاشخاص، لا يقاس معبودهم العاطل من الفاعلية أو المحدود فاعلية بالمعبود الحق، وهو الله تعالي.
لذلك، فإن قاريء الدعاء يمكنه من خلال قراءته لهذه العبارة (يا خير معبود عُبد) أن يتداعي بذهنه الي أن حاجات الإنسان: الروحية والمادية لا يمكن أن يتم اشباعها الا من خلال التوجه الي (معبود) وحيد لا يشاركه أحد في ذلك، الا وهو الله تعالي، حيث يحقق للعبد ما يتطلع اليه من الحاجات الروحية والمادية، أما روحياً فلا أحد غير الله تعالي يستحق العبادة بحيث يتفاعل العابد وجدانياً مع الله تعالي الي درجة أن الله تعالي يهيء له كل الأمكانات التي يتطلع الأنسان اليها والأمر كذلك بالنسبة الي الحاجات المادية أو الدنيوية. بعد ذلك نواجه عبارة (يا أجل مشكور شُكر). فماذا نستلهم منها؟
هذه العبارة تحتاج الي المزيد من التوضيح، لذلك نؤجل الحديث عنها في لقاء لاحق ان شاء الله تعالي.
*******