نواصل حديثنا عن الادعية المباركة، ومنها: دعاء الجوشن الكبير، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدثك الآن عن احد مقاطعه الذي ختم بعبارة (يا قريباً غير بعيد). فماذا نستلهم من العبارة المتقدمة؟
ان (القرب) من الله تعالى بالنسبة الى العبد، كما ان (القرب) بالعكس: ينطوي على نكات متنوعة، يجدر بنا الاشارة الى ذلك: ان الله تعالى يقرر في كتابه الكريم ما يأتي: «فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ». كما ورد بما مؤداه في النصوص الشرعية من انه تعالى عال في دنوه، ودان في علوه، اي: هو عال بصفته المبدع او الخالق، ولكنه دان من عبده في استجابة دعائه، وفي اضفاء رحمته على عبده، والعكس هو الصحيح ايضاً، اي: انه قريب من عبده وعال ايضاً: للدلالة التي اوضحناها الآن والذي نستمده من ذلك كله هو: ان (القرب) هو رمز لاستجابة دعاء العبد او اشباع حاجاته.
واما عبارة (غير بعيد) فهي: تأكيد على ما اوضحناه قبل قليل من ان علوه تعالى يقترن بقربه من عباده: رحمة بهم.
بعد ذلك نواجه مقطعاً جديداً هو: (يا نور النور، يا منور النور، يا خالق النور،...). ترى ماذا نستخلص من العبارة المتقدمة؟
لنتحدث اولاً عن النور: مما لا شك فيه ان (النور) ـ كما ورد في نصوص قرآنية كريمة، انما يجسد رمزاً لحقيقة اخرى، فقوله تعالى:«يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ» مثلاً انما هو رمز للايمان، والطاعة، وكل ما هو ايجابي من الظواهر، والعكس هو الصحيح، اي: (ان الظلمات) رمز للكفر والمعصية ولكل ما هو سلبي من الظواهر.
وهذا من حيث عبارة (النور) بنحو عام واما بنحو خاص كما ورد مثلاً في سورة النور قوله تعالى «اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ».
فان النصوص التفسيرية تتفاوت في تحديد ذلك، فمثلاً ان (النور) في الآية المتقدمة تعني: الهدى، فيكون المعنى ان الله تعالى يهدي الى ما فيه الخير، وهناك نص تفسيري يذهب الى انه تعالى (ينوّر) السماوات والارض بالشمس والقمروالنجوم، وهناك نص تفسيري يذهب الى انه تعالى يزيّن السماوات بالملائكة، والارض بالانبياء. وايا كان الامر فان (النور) بصفته رمزاً لـ (الخير) بنحو مطلق، حينئذ يسهل علينا ادراك هذا الرمز: كما ورد في الدعاء الذي نتحدث عنه. فماذا نستلهم منه؟
الدعاء يقول: (يا نور النور). ترى ماذا نستخلص من العبارة المتقدمة؟
اذا قلنا ان النور هو رمز للخير مطلقاً، فهذا يعني انه تعالى هو رمز لرمز النور، اي: هو المفيض او المصدر لكل ما هو خير، وهذا يتسق مع عظمة الله تعالى دون ادنى ترديد، اي: ان كل ما هو خير انما هو من الله تعالى وحينئذ اذا كان المعنى ما قدرناه، فماذا تعني العبارة الثانية القائلة: (يا منوّر النور)؟
في تصورنا ان الله تعالى ما دام هو المفيض للنور على الوجود، حينئذ فان عبارة (منوّر النور) تعني انه تعالى هو المحدد لمستويات هذا النور، وبعبارة اشد وضوحاً: ان الله تعالى هو (نور النور) اي: مصدر النور، ثم ما هو ـ مادام مصدر للنور، عندئذ فان النوربنحو مطلق انما يتحدد بما هو المبادئ التي رسمها للكون بشراً وسواه، اي: ان الانارة هي ما رسمها تعالى وليست الانارات التي نلاحظها خارجاً عما رسمه تعالى من المبادئ. ان الانسانية مثلاً هي فيض من الله تعالى على البشر، ولكن الفيض الانساني ـ اي ما هو خير: كمساعدة الفقير ـ لا يكتسب الاهمية التي يكتسبها المؤمن في مساعدته للفقير وفقاً لمبادئ المساعدة التي رسمها الله تعالى: كأن تكون مثلاً من المال الحلال.
بعد ذلك نواجه (يا خالق النور)، وهذه العبارة هي امتداد لسابقتها التي تقرر بانه تعالى هو (منور النور) اي: المخطط لما هو خير، فما دام النور هو مبادئ الله تعالى التي رسمها، حينئذ فان (الخالق) لها هو المحدد ـ اذن ـ لمبادئ النور بالنحو الذي اوضحناه.
*******