نواصل حديثنا عن الادعية المباركة ومنها دعاء الجوشن الكبير، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونتابع حديثنا عن ذلك في احد مقاطع الدعاء، حيث ورد فيه: (يا من كل شيء قائم به، يا من كل شيء صائر اليه، يا من كل شيء يسبح بحمده، يا من كل شيء هالك الا وجهه).
هذه الفقرات من مقطع الدعاء تتضمن جملة مظاهر من عظمة الله تعالى في صفاته العظمى، ومن ذلك: هاتان الصفتان (كل شيء صائر اليه، كل شيء قائم به). ترى، ماذا نستلهم من العبارتين؟
ان كل شيء يمكن تصوره انما يقوم بفاعلية من الله تعالى، وهو امر لا نحتاج خلاله الى توضيح: مادام تعالى هو الخالق للوجود، والامر نفسه يمكن الذهاب اليه وهو ان كل شيء يصير في النهاية الى الله تعالى. اي: ان الموجودات ترجع الى الله تعالى بعد ان يكون الله تعالى قد اوجدها ومن ثم افناها وهذا احد وجوه الاستخلاص من عبارة: (كل شيء صائر اليه) حيث ان الصيرورة اليه تعالى، وابتداء الخلق لذلك الشيء منه، يجسد مفهوماً: الاحياء والاماتة، او مفهوم الحياة والموت، وهما من ابرز الظواهر تجسيداً لمخلوقات الله تعالى.
بعد ذلك نواجه عبارة: (كل شيء يسبح بحمده) و عبارة (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ) هنا يثار السؤال الآتي اولاً: ما هي العلاقة بين تسبيح الوجود لله تعالى، وبين هلاك او فناء الوجود المذكور، وعدم بقاء أي شيء الا الله تعالى؟
والسؤال الآخر ما هي النكتة الكامنة وراء التكرار لفناء الوجود في عبارة (كل شيء هالك الا وجهه) والعبارة السابقة عليها وهي(كل شيء صائر اليه)؟
الاجابة عن السؤالين يفرضان علينا ملاحظة السياق الذي وردا فيه فعبارة (كل شيء صائر اليه) تتحدث عن الحياة الاخرى، واما عبارة (كل شيء هالك الا وجهه) فتتحدث عن بقاء الله تعالى، والفارق واضح بين السياقين دون ادنى شك وتبقى الاجابة عن السؤال القائل: ما هي العلاقة بين تسبيح الوجود لله تعالى، وبين هلاك الوجود وعدم بقائه الا الله تعالى؟
الاجابة هي ان الهدف اساساً من الوجود هو عبادة الله تعالى تبعاً لقوله تعالى: «مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ»، وابرز وجوه العبادة هو تقديسه تعالى متمثلاً في التسبيح تبعاً لقوله تعالى: «تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ».
هنا تجدر الاشارة الى ان الهدف مادام هو تسبيحه تعالى، فان التسبيح نفسه انما يظل مرتبطاً بوجود المخلوقات، وهي معرضة للفناء، ولكن مع الخلود في آن واحد، اي: ان الوجود مرتبط بتسبيحه من جانب، وبقائه ازلياً من جانب آخر، فتكون النتيجة، ان الله تعالى موجود ازلياً، والوجود نسبياً: كما هو واضح، وهي مفردة معرفية في ميدان العقائد: كما هو واضح ايضاً.
بعد ذلك نواجه مقطعاً جديداً هو: (يا من لا مفر الا اليه، يا من لا مفزع الا اليه، يا من لا مقصد الا اليه، يا من لا منجى منه الا اليه،).
هذه الفقرات من الدعاء متجانسة في دلالاتها، انها تتحدث عن اللجوء الى الله تعالى، الا ان اللجوء يظل ذا مستويات متنوعة، يعبر عنها حيناً بالمفر اليه، وحيناً بالفزع اليه، وحيناً بالمقصد اليه.
*******