ونزلت فيه *الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُم دينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلامَ دِيناً*
فقال ـ صلى الله عليه وآله وسلم : الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضي الرب برسالتي، والولاية لعلي بن أبي طالب من بعدي.
قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم :
يوم غدير خم أفضل أعياد أمتي وهو اليوم الذي أمرني الله تعالى ذكره فيه بنصب أخي على بن أبى طالب علما لأمتي، يهتدون به من بعدي وهو اليوم الذي أكمل الله فيه الدين وأتم على أمتي فيه النعمة ورضي لهم الإسلام دينا. (أمالي الصدوق: 125، ج 8).
ويسرد لنا التاريخ ما تعلق بعيد الغدير:
البداية حجة الوداع
أعلن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بأنه سوف يحج هذا العام وأنها أخر حِجة له وإنه يوشك أن يدعى فيجيب وحضر المسلمون الحج من كل فجٍ عميق.
وفي آخر أيام الحج نزل عليه جبرائيل عليه السلام قائلا: أن الله تعالى يأمرك أن تدل أمتك على وليهم، فاعهد عهدك، واعمد إلى ماعندك من العلم وميراث الأنبياء فورثه إياه، وأقمه للناس علماً، فإني لم أقبض نبياً من أنبيائي إلا بعد إكمال ديني، ولم أترك أرضي بغير حجة على خلقي. الخ.
فأخذ النبي صلى الله عليه وآله يفكر في طريقة الإعلان، نظراً إلى وضع قريش المتشنج، وقال في نفسه: أمتي حديثو عهد بالجاهلية ومتى أخبرتهم بهذا في ابن عمي يقول قائل، ويقول قائل...
لذلك قرر أن ينفذ هذا الأمر الإلهي الجديد في عترته، بعد رجوعه إلى المدينة، بالتمهيد المناسب، وبمعونة الأنصار...
الوحي يوقف القافلة النبوية
ورحل النبي صلى الله عليه وآله من مكة وهو ناو أن يكون أول عمل يقوم به في المدينة إعلان ولاية عترته، كما أمره ربه تعالى.
لكن في اليوم الثالث من مسيره، عندما وصل إلى كراع الغميم، وهو كما في مراصد الإطلاع: موضع بين مكة والمدينة، أمام عسفان بثمانية أميال.. جاءه جبرائيل عليه السلام لخمس ساعات مضت من النهار يأمره بتبليغ الخلافة والولاية من بعده لعلي أبن أبي طالب عليه السَّلام، وقال له: يا محمد إن الله عز وجل يقرؤك السلام ويقول لك:
*يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، والله يعصمك من الناس، إن الله لا يهدي القوم الكافرين*
وقف النبي محمد صلى الله عليه وآله وخشع لربه ، وتَسَمَّرَ في مكانه ، وأصدر أمره إلى المسلمين بالتوقف ، وكان أولهم قد وصل إلى مشارف الجحفة ، وكانت الجحفة بلدةً عامرةً على بعد ميلين أو أقل من كراع الغميم ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله أراد تنفيذ الأمر الإلهي المشدد فوراً ، في المكان الذي نزل فيه الوحي...
قال صلى الله عليه وآله للناس: أنيخوا ناقتي فوالله ما أبرح من هذا المكان حتى أبلغ رسالة ربي... وأمرهم أن يردوا من تقدم من المسلمين إليه، ويوقفوا من تأخر منهم حين يصلون إليه...
ونزل الرسول عن ناقته، وكان جبرائيل إلى جانبه، ينظر إليه نظرة الرضا، وهو يراه يرتجف من خشية ربه، وعيناه تدمعان خشوعاً وهو يقول: تهديدٌ.. ووعدٌ ووعيدٌ.. لأمضين في أمر الله، فإن يتهموني ويكذبوني فهو أهون علي من أن يعاقبني العقوبة الموجعة في الدنيا والآخرة !
وقبل أن يفارقه جبرائيل أشار إليه على يمينه فإذا دوحة أشجار.. فودع النبي جبرائيل ومال إليها، وحطَّ رحال النبوة عند غدير خُمٍّ.
قال بعض المسلمين: فبينا نحن كذلك، إذ سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وهو ينادي: أيها الناس أجيبوا داعي الله.. فأتيناه مسرعين في شدة الحر، فإذا هو واضعٌ بعض ثوبه على رأسه.
هناك أمر الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بإرجاع ما تقدم علية وانتظار من تخلف عنه في قافلة الحج حتى كمل من كان معه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وكان عددهم سبعين ألفا أو أكثر، ففي تفسير الثعلبي وتذكرة سبط أبن الجوزي وغيرهما: كان عددهم يومئذ مائة وعشرين ألفا وكلهم حضروا عند غدير خُم ، ثم نودي فيهم الصلاة جامعة وكسح لرسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ تحت شجرتين فصلى الظهر ، وكان ذلك اليوم قائظاً شديد الحر حتى كان الرجل يضع قسم من عباءته فوق رأسه والآخر تحت قدماه.
المكان غدير خم
ونزل المسلمون حول نبيهم صلى الله عليه وآله، فأمرهم أن يكسحوا تحت الأشجار لتكون مكاناً لخطبة الولاية، ثم للصلاة في ذلك الهجير، وأن ينصبوا له أحجاراً كهيئة المنبر، ليشرف على الناس، فيرونه ويسمعهم كلامه. ..
ورتب المسلمون المكان والمنبر، ووضعوا على أحجاره حدائج الإبل، فصار منصة أكثر ارتفاعاً، وحسناً..
وورد المسلمون ماء الغدير فشربوا منه، واستقوا، وتوضئوا..
وتجمعوا لاستماع خطبة نبيهم صلى الله عليه وآله قبل الصلاة، ولم يتسع لهم المكان تحت دوحة الغدير، وكانت ستَّ أشجارٍ كبيرة، فجلس كثير منهم في الشمس، أو استظل بظل ناقته..
عرفوا أن أمراً قد حدث، وأن النبي صلى الله عليه وآله سيخطب.. فقد نزل عليه وحيٌ أو حدث أمرٌ مهمٌ أوجب أن يوقفهم في هذا الهجير، ولا يصبر عليهم حتى يصلوا إلى مدينة الجحفة العامرة، التي تبعد عنهم ميلين فقط.
خطبة الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ يوم الغدير
فصعد النبي المصطفى ـ صلى الله عليه واله ـ منبراً من أحداج الإبل وخطب فيهم خطبةً عظيمة وذكر في شطر منها بعض الآيات القرآنية الكريمة التي نزلت في شأن وحق علي ابن أبي طالب. وبين فضله ومقامه على الأمة الإسلامية ثم قال:
معاشر الناس, ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا بلى قال: ألستم تعلمون أني ُ أولى بكل مؤمن من نفسه ؟ قالوا بلا يا رسول الله، قال ـ صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم أشهد.
ثم قال صلى الله عليه وآله: لا إله إلا هو، لا يؤمن مكره، ولا يخاف جوره، أقرُّ له على نفسي بالعبودية، وأشهد له بالربوبية، وأؤدي ما أوحى إلي، حذراً من أن لا أفعل فتحل بي منه قارعةٌ، لا يدفعها عني أحدٌ، وإن عظمت حيلته.
أيها الناس: إني أوشك أن أدعى فأجيب، فما أنتم قائلون؟
فقالوا : نشهد أنك قد بلغت ونصحت.
فقال: أليس تشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن الجنة حقٌ وأن النار حقٌ وأن البعث حق؟
قالوا : يا رسول الله بلى.
فأومأ رسول الله إلى صدره وقال : وأنا معكم.
ثم قال رسول الله : أنا لكم فرط ، وأنتم واردون عليَّ الحوض ، وسعته ما بين صنعاء إلى بصرى ، فيه عدد الكواكب قِدْحان ، ماؤه أشد بياضاً من الفضة .. فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين.
فقام رجل فقال : يا رسول الله وما الثقلان؟
قال : الأكبر : كتاب الله ، طرفه بيد الله وسبب طرفه بأيديكم ، فاستمسكوا به ولا تزلوا ولا تضلوا.
والأصغر : عترتي أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض.. سألت ربي ذلك لهما ، فلا تقدموهم فتهلكوا ، ولا تتخلفوا عنهم فتضلوا ، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم.
معاشر الناس, ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا بلى قال: ألستم تعلمون أني ُ أولى بكل مؤمن من نفسه؟ قالوا بلا يا رسول الله، قال ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: اللهم أشهد.
أيها الناس : ألستم تعلمون أن الله عز وجل مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأني أولى بكم من أنفسكم؟
قالوا : بلى يا رسول الله.
قال: قم يا علي . فقام علي ، وأقامه النبي صلى الله عليه وآله عن يمينه ، وأخذ بيده ورفعها حتى بان بياض إبطيهما ، فقال ـ صلى الله عليه وآله وسلم:
من كنت مولاه فعلي مولاه . اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله ، وأدر الحق معه حيث دار.
فاعلموا معاشر الناس أن الله قد نصبه لكم وليا وإماما مفترضا طاعته على المهاجرين والأنصار ، وعلى التابعين لهم بإحسان ، وعلى البادي والحاضر ، وعلى الأعجمي والعربي ، والحر والمملوك والصغير والكبير.
فقام أحدهم فسأله وقال : يا رسول الله ولاؤه كماذا؟
فقال صلى الله عليه وآله :ولاؤه كولائي ، من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه!
وأفاض النبي صلى الله عليه وآله في بيان مكانة علي والعترة الطاهرة والأئمة الإثني عشر من بعده: علي والحسن والحسين، وتسعة من ذرية الحسين، واحدٌ بعد واحد، مع القرآن والقرآن معهم، لا يفارقونه ولا يفارقهم، حتى يردوا عليَّ حوضي..
ثم أشهد المسلمين مراتٍ أنه قد بلغ عن ربه.. فشهدوا له..
وأمرهم أن يبلغ الشاهد الغائب.. فوعدوه وقالوا: نعم..
وقام إليه آخرون فسألوه... فأجابهم
كيف تمت بيعة الإمام علي عليه السَّلام
ثم أمر ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بنصب خيمة وأجلس علياً فيها وأمر من كان معه إن يحضروا عنده جماعات وأفراد ليُسَلموا على علياً بإمرة المؤمنين وأن يبايعوه وقال ـ صلى الله عليه وآله وسلم : لقد أمرني ربي بذلك وأُمِرتُم بالبيعة لعلي.
بعد ذلكَ أقام النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ مع أصحابه ثلاثة أيام في ذلك المكان حتى تمت البيعة لعلى, حيث بايع جميع من كان مع النبي في غدير خم وبايعته النساء أيضا ثم أرتحل من خُمٍ وتابع سفره إلى المدينة المنورة.
ولقد بايع في من بايع عليٍ ، أبو بكر الصديق وعمر وعثمان وطلحة والزُبير. حتى قال أبو بكر وعمر لعلي: بخٍ بخٍ لك يا علي أصبحت مولاي ومولا كل مؤمناً ومؤمنة.
المصدر( تاريخ دمشق لابن عساكر الشافعي ج2 ص75 ط1 بيروت)
إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضى الرب
وبعد بيعة المسلمين لعلي وقبل أن يتفرقوا نزل جبرائيل الأمين بالآية الكريمة:
*الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُم دينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلامَ دِيناً* المائدة أية3.
فقال ـ صلى الله عليه وآله وسلم : الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضى الرب برسالتي، والولاية لعلي بن أبي طالب من بعدي.
ومن هنا يجب على المسلمين أن يعرفوا ويعلموا إن تنصيب علي للخلافة والولاية هي أكمال للدين وإتمام للنعمة ورضاء الله بالدين، وبدون الولاية لا يكمل الدين, وهنا نعرف إن تعين الخلافة أمر الهي من الله لا للشورى أن تحدد ذلك كما هو أمر النبوة من الله أيضا.
أحداث بعد بيعة الغدير
ولقد شاع وطار خبر يوم الغدير في موالاة علي وتعينه الخليفة بالحق من بعد الرسول الأكرم ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في البلاد، فبلغ الحارث بن النعمان الفهري فأتى النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ على ناقته ،وكان بالبطح فنزل وعقل ناقته، وقال للنبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وهو في ملأ من أصحابه:
يا محمد أمرتنا من الله أن نشهد أن لا اله إلا الله وأنك رسول الله ،فقبلنا منك ثم ذكر سائر أركان الإسلام ثم لم ترض بهذا حتى مددت بضبعي ابن عمك ،وفضلته علينا وقلت:"من كنت مولاه فعلي مولاه" فهذا منك أم من الله؟
فقال ـ صلى الله عليه وآله وسلم: والله الذي لا اله إلا هو,هو من الله.
فولى الحارث يريد راحلته، وهو يقول : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو آتنا بعذاب أليم.
فما وصل إلى راحلته حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره، وأنزل الله تعالى *سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع*.
المصدر شواهد التنزيل للحسكاني 2/286 , تفسير الثعلبي في سورة سأل سائل , تفسير القرطبي 8/ 278 , ينابيع المودة للقندوزي ص 328 , الحاكم في الصحيحين 2/ 502 ,تذكرة الخواص لابن الجوزي ص 37, وغيرها)
وقال حسان بن ثابت: أتأذن لي يا رسول الله أن أقول أبياتاً ؟ قال: قل ، فقال حسان بن ثابت:
يناديهمُ يـوم الغديـر نبيُّهـــُــمْ بخمٍّ فأسمع بالرسول مناديـــا
يقول فمن مولاكم ووليُّكُـــــمْ فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا
إلهك مـولانا وأنت وليـــــــنـا ولم تر منا في الولاية عاصيا
فقال له قم يا عـــليُّ فإننـــي رضيتك من بعدي إماماً وهاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليــــه فكـونوا له أنصار صدق مواليا
هناك دعـا اللهم وال وليــــه وكن للذي عــــادى علياً معاديا
-----------------
المصادر
وقد روى حديث الغدير كثير من محدثي الفريقين ومنهم:
- صحيح الترمذي ج 2 ص 298
_الواحدي في أسباب النزول والتفسير الكبير للرازي.
- مسند أحمد ج 4 ص 281
- فتح القدير ج5 ص 246 .
- صحيح البخاري ج 6 (كتاب التفسير) ص 290
- السيرة النبوية لابن كثير ج 4 ص 414-425 .
- تفسير الطبري
- الدر المنثور للسيوطي ج 6 ص 244 .
- مستدرك الصحيحين ج 3 ص 122
- تفسير ابن كثير ج4 ص 389 .
- صحيح أبن ماجة باب فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
- روح المعاني للآلوسي ج 28 ص 135
- جلال الدين السيوطي في تفسيره الدر المنثور
- كنز العمال ج1 ص 237.
- أبو داود السجستاني في سننه.
– مجمع الزوائد ج9 ص 194 .
- محمد بن عيسى الترمذي في سننه.
– شواهد التنزيل ج2 ص 255 ،بعدة طرق وأسانيد.
- مسلم بن الحجاج في صحيحه ج 2 ص 325.
– فتح الباري ج13 ص 27 .
إنّ رواة حديث نزول هذه الآية المباركة *الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُم دينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي* في يوم الغدير ـ من كبار الأئمّة والحفّاظ الأعلام.
أسعد الله أيامكم وعيدكم مبارك وثبتنا الله وإياكم على الولاية