نواصل حديثنا عن الادعية المباركة، ومنها: الدعاء الموسوم بـ (الجوشن الكبير)، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدثك الآن عن أحد مقاطعه الذي ورد فيها: (يا خالق الخلق، يا صادق الوعد، يا موفي العهد، يا عالم السرّ،...).
ونبدأ بالحديث أوّلاً عن عبارة (يا خالق الخلق)، فماذا نستلهم منها؟
العبارة المتقدمة من الوضوح بمكان لا نعتقد أنّ أحداً يجهل دلالتها، إنه تعالى خالق الخلق، اي: الموجودات جميعاً، ولكنّ النكتة هي: استلهامنا لما تفرز هذه الكلمة من تداعيات ذهنية، وهذا هو الأهم. فماذا نستلهم من ذلك؟
لا شك، أنّ الوحدانية او التوحيد أو التفرد في العظمة هو إلاستلهام الأول الذي يتداعى الى أذهاننا، ونعني به: أنّ الله تعالى وليس سواه هو من وراء الوجود الذي نشاهده، وما لم نشاهده ايضاً، لأنّ المخلوقات - كما نطقت النصوص - الشرعية متنوعة، بعضها ما هو محيط بنا، وبعضها ما لم تخبر عنه سوى معرفتنا بما أنّ وراء عالمنا هذا عوالم متعددة، وهذا هو أحد استلهامات عظمة الله تعالى في تفّرده بإيجاد الخلق ولا يشاركه أحد البتة.
وما هو الإستلهام الآخر؟ في تصورنا أنّ الذهن عندما يدقّق النظر في عظمة الله تعالى من حيث إنه هو وراء الخلق، أي مبدعه، حينئذ فإنّ الخلق ينطفئ في ذهنه ويأتلف وجود الله تعالى وحده، اي: نستلهم بأنّ الله تعالى هو الفاعلية الوحيدة التي نعتمد عليها في تصوراتنا وطموحاتنا وما الى ذلك.
ويترتب على ما تقدّم أنّ الأمر جميعاً مفوّض إليه، وهذا كاف في تعديل سلوكنا، وإدراكنا للمهمة العبادية التي خلقنا لأجلها.
الإستلهام الثالث هو: ما لاحظناه الآن من التصور الذاهب الى أنّ إدراكنا للمهمة العبادية يعتمد على مدى ما ندركه من مفهوم(الخلق) والهدف الكامن وراءه.
إن الذهن عندما ينتقل من عبارة (خالق الخلق) الى أنّ (الخلق) ينطوي على حكمة وهدف، حينئذ يتداعى ذهننا الى الآية الكريمة القائلة: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ»، وينتقل ذهننا الى العبارة القرآنية الكريمة القائلة «إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً».
اذن، سوف نعي ونتذكّر وندرك بأنّ وراء (الخلق) هدفاً هو: ممارسة العبادة، اي: ممارسة الخلافة في الارض: وهو هدف الخلق: كما اتّضح.
بعد ذلك نتّجه الى عبارة (يا صادق الوعد)، فماذا نستلهم منها؟
إنّ قارئ الدعاء سوف ينتقل ذهنه الى التساؤل الآتي: ما هي الصلة بين إدراكنا بأنّ الله تعالى (خالق الخلق) وبين أنه تعالى(صادق الوعد)؟
هذا اولاً، وأمّا ثانياً: فماذا تعني عبارة (صدق الوعد)، وما هي أهمية هذا المفهوم؟
قبل ان نحدثك عن عبارة (يا صادق الوعد)، نودّ أن نلفت نظرك الى أنّ القرآن الكريم وسم كلّ نبي بسمة معينّة مثل سمة (الشكر) بالنسبة الى نوح (عليه السّلام) «كَانَ عَبْدًا شَكُورًا»، ومثل سمة (الصبر) عند أيّوب (عليه السّلام)، ومثل سمة (أوّاب) ونحو ذلك على داوود (عليه السّلام) وسواه، ومنه: سمة (صادق الوعد) على اسماعيل (عليه السّلام) (إنه كان صادق الوعد) كما وردت العبارة القرآنية الكريمة بذلك.
هذه الملاحظات لا مناص منها قبل أن نحدثك عن مفهوم (صادق الوعد)، وهو أمر نؤجل الحديث عنه الى لقاء لاحق ان شاء الله تعالى.
ختاماً نسأله تعالى أن يوفقنا الى ممارسة الطاعة، والتصاعد بها الى النحو المطلوب.
*******