لا ابالغ ان قلت بأن حادثة اسقاط طائرة التجسس الامريكية من طراز (جلوبال هوك) وهي درة تاج الصناعة الامريكية او مفخرة تلك الصناعة من حيث التطور و الإمكانات التكنولوجية بواسطة صاروخ ايراني الصنع يضاهي في قدراته قدرات صاروخ اس -٣٠٠ الروسي هو حدث تاريخي سيكون له ما بعده.
بمعنى اخر فان تاريخ العشرين من حزيران ٢٠١٩ سيدخل التاريخ مثل غيره من التواريخ التي ارتبطت باحداث كبرى ساهمت في تدشين عصر جديد في تاريخ العالم في صيرورة هبوط وصعود قوى عظمى الى المسرح الدولي من بوابة منطقة الشرق الاوسط (منطقة غرب آسيا)، التي من المعروف عبر التاريخ بان من يسيطر عليها يسيطر على العالم.
ولكي اوضح معنى ما اقول فإن منطقة الشرق الاوسط (منطقة غرب آسيا) وتحديدا منذ اكتشاف النفط مطلع القرن العشرين اصبحت من المناطق المهمة جدا للمصالح الامريكية، وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتحول مركز قيادة منظومة الامبريالية العالمية من بريطانيا التي هرمت وشاخت الى امريكا الصاعدة وما تخلل ذلك من انقسام العالم الى معسكرين متنازعين هما المعسكر الإمبريالي بزعامة امريكا والمعسكر الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفياتي السابق اصبحت مسالة السيطرة العسكرية الامريكية المباشرة على الشرق الاوسط هدفا ثابتا للسياسة الخارجية الامريكية.
وقد اعتمدت واشنطن لتحقيق تلك السيطرة على مجموعة من الدول الموالية لها وفي مقدمتها اسرائيل والمحور الرجعي العربي بقيادة السعودية، وتمكنت بعد تجيير المقبور أنور السادات لنتائج حرب اكتوبر العربية الاسرائيلية عام ١٩٧٣ من القرن الماضي لصالح امريكا من السيطرة المباشرة على النفط العربي في السعودية وباقي الدول الخليجية إنتاجا وتسعيرا وتسويقا وربط عملية بيعه لأوروبا واليابان بعملة الدولار الامريكية مما ساهم في إنعاش الاقتصاد الامريكي ومنع انهيار وتفكك امريكا كما انهارت وتفكك الاتحاد السوفياتي السابق عام ١٩٩٢ من القرن الماضي.
لقد أدى غياب الاتحاد السوفياتي عن المسرح الدولي الى تمكن الولايات المتحدة الامريكية من الانفراد بالسيطرة على الشرق الاوسط (منطقة غرب آسيا) ردحا من الزمن وتدمير العديد من الدول العربية من ضمنها العراق وليبيا وسوريا واليمن وإدخالها في دوامة من الحروب الداخلية أسفرت عن إزهاق ارواح ملايين المواطنين العرب وتمكين اسرائيل من فرض معاهدات مذهلة على الفلسطينيين والعرب مثل كامب ديفيد اوسلو ووادي عربة.
ولكن صمود ايران وحنكة قيادتها السياسية ومصيرها الاستراتيجي في التعامل مع العربدة الامريكية ونهوض روسيا في عهد رئيسها القوي فلاديمير بوتين وتعملق الصين التي بات اقتصادها الثاني عالميا بعد الاقتصاد الامريكي وظهور المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله ومقاومة غزة وصمود سوريا أدخل سياسة الهيمنة الامريكية على المنطقة بمازق كبير.
وقد كان واضحا منذ مطلع العام ٢٠١١ ان الولايات المتحدة الامريكية بدأت تشعر بضرورة وضع يدها على سوريا لمنع القوى الصاعدة في المنطقة والعالم من إضعاف النفود الامريكي في الشرق الاوسط كمقدمة لاعادة بناء عالم متعدد الاقطاب على أنقاض عالم القطب الامريكي الواحد الذي تربعت عليه امريكا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي السابق.
فكانت الحرب التي شنها التحالف الصهيو -امريكي- الرجعي العربي عل سوريا عام ٢٠١١ في الاساس حربا امريكية ضد القوى الاقليمية والدولية التي تشكل تهديدا لتابيد هيمنة واشنطن على الشرق الاوسط (منطقة غرب آسيا) وبالتالي على العالم.
ولكن صمود الجيش العربي السوري الاسطوري وتدخل حزب الله وايران ومن ثم روسيا عسكريا لمساندة الدولة السورية وتحول ميزان القوى هناك لمصلحة خصوم امريكا وافقدها زمام المبادرة الاستراتيجية وجعلها تفكر بضرب ايران لانها لا تجرؤ على ضرب سوريا وكانت البداية لذلك هي الانسحاب من الاتفاق النووي وتشديد الحصار الاقتصادي والتهديد بالخيار العسكري لإجبار القيادة الايرانية على الاستسلام.
ولكن ترامب الاحمق الذي لم يستمع لآراء قادته العسكريين الذين كانوا يقولون له لا تصغ الى نصائح جون بولتون وجورج بومبيو وبن زايد وبن سلطان ونتنياهو لان ايران اقوى بكثير مما تعتقد ومما يعتقدون ولا قبل لنا للانتصار عليها عسكريا بالسلاح التقليدي الى ان إيقظوه صباح الخميس الماضي على خبر اسقاط ايران لدرجة سلاح الطيران الامريكي المسير (جلوبال هوك) فجن جنونه ووقف عاجزا متخبطا يهدد ايران تارة برد عسكري وتارة أخرى يشيد بحكمته في عدم اسقاط طائرة تجسس امريكية اخرى كان على متنها ٣٨ عسكريا امريكيا وتارة ثالثة يلقي اللوم على مستشاريه الذين سألوه كما ذكرت شبكة (فوكس نيوز).
عود على بدء لا بد من الاشارة الى ان ترامب كان يكذب وهو يقول بان خوفه على حياة ١٥٠ ايرانيا كانوا سيلقون حتفهم هو الذي حدا به لاصدار اوامره بوقف الغارات الجوية الانتقامية التي أمر يشنها على ايران عقب اسقاط طائرة التجسس الامريكية قبل عشر دقائق من الموعد الذي حدد لشنها فجر الجمعة.
فلو ان حياة الناس الابرياء تدخل في دائرة اهتمام هذا العنصري البغيض والشعبوي الكريه لما امر بشن غارات جوية أودت بحياة الآلاف من الابرياء في العراق وسوريا واليمن ولما أصر على مواصلة تزويد قوى تحالف العدوان السعودي بالسلاح الذي أدى استخدامه ضد المدنيين الابرياء الى سقوط عشرات آلاف المدنيين الابرياء في اليمن بين شهيد وجريح ومشبوه من أجل المال.
ولما صمت عن قتل اسرائيل للمدنيين الفلسطينيين الابرياء في مسيرات العودة وفك الحصار على الحدود مع قطاع غزة وعلى الحواجز العسكرية في الضفة الغربية بدم بارد من أجل معتقدات غيبية صهيو- مسيحية ومن أجل الحصول على دعم اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الامريكية لتمكينه من البقاء في حكم امريكا لاربع سنوات اخرى بعد انتهاء فترة رئاسته الحالية..
ورغم انني لا استطيع ان أبت بان خبر إلغاء الرد الانتقامي الامريكي على اسقاط ايران لطائرة التجسس الامريكية والذي كان مصدره في بداية الامر صحيفة (نيويورك تايمز) الامريكية كان مصداقا او انه كان مختلفا من اساسه لان احد المقربين من ترامب قد تعمد تسريبه للصحيفة في محاولة للحفاظ على ماء وجهه وإيجاد ذريعة لتمكينه من بلع الإهانة الايرانية الكبيرة التي وجهت لكرامة امريكا وتبرير عدم الرد على اللطمة الايرانية التي وجهت له الا انني استطيع الجزم بعيدا عن التفاصيل ان ما منع الرد هو خوف الدولة العميقة في امريكا من ان يؤدي الرد الايراني الانتقامي على الرد الامريكي الى سقوط أمريكيين وبالتالي الى رد امريكي اخر يؤدي بدوره الى تدحرج الامور الى حرب شاملة تهدد المصالح الامريكية في المنطقة وتشكل خطرا وجوديا على اسرائيل اولا وعلى السعودية والامارات والبحرين ثانيا وعلى بقاء او عدم بقاء امريكا دولة عظمى ثالثا.
إذن فان هذه الاعتبارات هي التي منعت ولا زالت تمنع امريكا من اللجوء الخيار العسكري لحل مشكلتها ومشكلة اسرائيل مع ايران وليس اي اعتبار إنساني او اخلاقي اخر لان الإنسانية والأخلاق لا وجود لهما في القاموس الامريكي
وبالتالي فإن الاعتقاد يساورني بان لا حربا قادمة بين الولايات المتحدة الامريكية وايران لان موازين القوى بين الطرفين لا يسمح لامريكا بالانتصار في اي حرب من هذا النوع من ناحية ولأن اسرائيل ورغم عربدتها غير مستعدة في الوقت الحالي للحرب من ناحية ثانية. ولهذا فانني اميل لتصديق ما قالته بعض وسائل الاعلام من ان نتنياهو اتصل بترامب وطلب منه عدم قصف ايران ردا على اسقاط الحرس الثوري لطائرة التجسس الامريكية.
ولذلك فإن ما سيحدث هو استمرار لعبة عض أصابع بين الطرفين قد يتخللها من جانب ايران المزيد من عمليات التفاوض المحدودة بالنار على غرار تفجيرات ناقلات النفط في الفجيرة وبحر عمان وربما ضربات محدودة لمصالح امريكية هنا وهناك الى ان ترضخ امريكا للمطالب الايرانية وتوافق على العودة للاتفاق النووي استجابة لشرط ايران للتفاوض معها.
وعلني لا ابالغ ان قلت بان اعلان ترامب عن استعداده لإجراء مفاوضات مباشرة مع ايران بدون شروط مسبقة قد تكون نقطة البداية لعملية تفاوضية قادمة بين الولايات المتحدة الامريكية وايران على حساب مصالح السعودية واسرائيل.
فأمريكا والعالم لا يحترمون غير الأقوياء. ايران قوية ومقتدرة وقادرة على اجبار ترامب على تعلم الحديث باللغة الفارسية ان اصر على مواصلة اللعب بالنار.