البث المباشر

انفتاح الدين على عالم الحياة والموت!

الأربعاء 14 ديسمبر 2022 - 20:45 بتوقيت طهران
انفتاح الدين على عالم الحياة والموت!

الدِّين - في بُعده الإيماني - ينفتح على عالم آخر، وهو عالم الحياة والموت، فلا يضيق الإنسان ذرعاً بالمشاكل الصَّعبة في حياته، ولا يتعقّد من أيّ حالة سلبية ذاتية،

فالدِّين يحثّ الناس دوماً على المواساة والمساعدة حتى الإيثار، لأنَّ ذلك يُثمر في مستقبل الدنيا تارةً، وفي مستقبل الآخرة تارة أخرى، نوعاً من التَّعويض الإلهي، بما يوفِّره للمؤمن من النِّعم الوافرة في الحياة، ومن الثَّواب الجزيل بعد الموت، ما يبتعد به عن كلِّ المشاعر المضادَّة أمام تحدّيات الواقع، لأنَّ الواقع ليس كلَّ شيء في الطموح الذاتي، ولأنَّ الحياة في مسؤوليَّته الإيمانيَّة، تمثِّل حركة القيم والأهداف الكبرى التي يعمل على تحقيقها، ولو من عمق المعاناة النفسيَّة والعمليَّة.

ولذلك، فإنَّه يمكن للمؤمن أن يتحسَّس السعادة في وجدانه، وهو في قلب الألم، ويرتاح للواقع في سلبيَّاته كما يرتاح له في إيجابيَّاته، لأنَّ المسألة في حساباته ليست مسألة الذَّات، بل مسألة القيمة، فهي الّتي تؤكِّد إنسانيَّته في أعماق المعاناة. ولعلَّ من الطبيعي أن يوفر ذلك كله قدراً كبيراً من الراحة النفسية للإنسان الفرد في حياته الخاصَّة، والإنسان المجتمع في حياته الاجتماعيَّة، بحيث ينفتح على الواقع القيمي بكلِّ راحة وطمأنينة، فلا يتعقَّد من الواقع، بل يبقى في مصالحة معه على مستوى الإحساس وعلى مستوى النَّتائج.

وهناك جانب آخر مهمٌّ في الدِّين، وهو هذا السموّ الرّوحي الَّذي ينطلق بالإنسان إلى آفاق الله، خالقه وخالق الكون، ليتعبّد له في إحساس الخضوع لربوبيته، في حالة وجدانية يمتزج فيها الرجاء من خلال النِّعمة، بالخوف من خلال العظمة، فهو من المفردات العبادية، الربّ، الرحمن، الرحيم، الكريم، المنعم، المتفضّل، المحسن، وهو مع ذلك، القويّ، القادر، القاهر فوق عباده، المتجبر الَّذي يُطلّ جبروته في عظمته وقدرته على الوجود كلِّه، وهو الحكيم الخبير الذي يتصرَّف بالكون والإنسان من خلال الأسرار العميقة التي تضع لكلِّ شيء قانوناً، وهذا الذي يجعل الإنسان واثقاً مطمئنّاً بمسار متوازن لحركة الوجود، لأنَّ الرعاية الإلهيَّة في مواقع الرحمة، والقدرة الربانيَّة في مواقع القوَّة، توحيان إليه بالأمن الَّذي قد يعرفه الإنسان، حتى في أوضاع الفوضى التي يشعر بأنها لا تخضع لقاعدة، ولا تقف عند حدّ.

وهكذا يقف الإنسان المؤمن أمام كلِّ المتغيرات والهزات الواقعيَّة، في هدوء عقلي وشعوري، وطمأنينة نفسيَّة، لأنَّ كلَّ شيء خاضع للتخطيط الإلهيّ {إنّا كلَّ شيءٍ خلقْناهُ بقدَرٍ}[القمر: 49]، {إنَّ الله بالغُ أمره قد جعَلَ الله لكلِّ شيءٍ قدراً}[الطلاق: 3].

وبذلك، فإنَّ المجتمع الإنساني لا يشعر بالإحباط والسقوط وانعدام الوزن أمام أيّ تقلّبات وتحوّلات، لأنها ليست جنوناً في حركة الحياة، بل هي حركة عاقلة في دائرة سنن الله في الكون والإنسان، بحيث يمكن للاجتماع الإنساني أن يراقبها ويرافقها، ضمن وعيٍ لأوضاعها ودلالاتها، وقدرةٍ على التَّعامل معها بواقعيَّةٍ واتّزان.

 

* من كتاب "الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل".

السيد محمد حسين فضل الله

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة