كانت مفاجأة كاملة لي. سألت نفسي: هل لا تزال فلسطين جمرة حية تحت الرماد أم أن الترتيبات السياسية الجاهزة انتصرت عليها وغطّتها بطبقات من التغيرات العالمية والإقليمية؟ وهل أخذ التعب من أصحابها الأصليين دورته فاستكانوا وارتضوا الواقع والوقوعية؟ وهل ستنجح فكرة تصفية السكان الأصليين مع شعب وأمة لا تعترف بالهزيمة، وإن وقعت، وتعتبرها جولة ضمن جولات؟
هذه الأسئلة وغيرها راحت تلح عليّ حين تلقيت دعوة من العراق، تحديداً من مؤسسة "نداء الأقصى"، للمشاركة في مؤتمر يجمع كل أطياف المؤمنين بعدالة القضية المظلومة من العالم كافة. قلت لنفسي: ما الجديد في قضية تتم تصفيتها مرة بالموت المباشر والحروب المتتالية، ومرات بالاتفاقيات، مع وجود قوى دولية قاهرة تقود السياسة في المسرح الدولي؟
لكنني، كأحد المؤمنين بانتصار القضايا العادلة في نهاية المطاف، قلت لنفسي: لعلي أرى جديداً في قضية كانت نتيجة مباشرة لحرب عالمية لا ناقة ولا جمل فيها للعرب، ولكن نتائجها ظهرت في استزراع دولة على أرض فلسطين. وقد استمرّ الوضع هكذا: مستوطنة غربية متقدمة مدججة بالسلاح في مواجهة سكان عزّل على مدى 75 عاماً، أي منذ نهاية تلك الحرب العالمية.
لبّيت هذه الدعوة لسبب يخصّ فلسطين، وسبب آخر هو أن العراق كان محطتي الأولى قبل 40 عاماً حين شددت الرحال إلى خارج البلاد، وأحتفظ له بذكريات عميقة وأصدقاء وشركاء طريق.
لا شكّ في أن التغييرات الدولية وانكسار الدول الوطنية بفعل عوامل التعرية السياسية والوطنية خصمٌ للقضية الفلسطينية، لكنني في مؤتمر "نداء الأقصى" المنعقد في مدينة كربلاء، برعاية العتبة الحسينية ودار الإفتاء العراقية ومؤسسة "نداء الأقصى"، على الأرض التي شهدت استشهاد الإمام الحسين الذي خرج لنصرة قضية مبدئية واستشهد من أجلها، وجدت إجابات واضحة لأسئلتي الحائرة، وهتفت على طريقة أرشميدس: "وجدتها وجدتها".
بدت فلسطين على ألسنة المشاركين، وعددهم يزيد على 300 مشارك من جميع أنحاء العالم، تلمع كالبرق أو تعود كطائر العنقاء من تحت الرماد. 300 شخصية من 60 دولة، منهم 250 شخصية فكرية، تتوزّع ما بين سياسية وثقافية، وما بين مسؤولين سابقين، وعلماء دين ومفتين، وأحفاد زعماء ومصلحين، جاؤوا من أوروبا وأميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا والعالم العربي.
على سبيل المثال لا الحصر، شارك في المؤتمر مفتي روسيا الذي يتحدث العربية بطلاقة، وحفيد الزعيم نيلسون مانديلا، بطل تحرير جنوب أفريقيا وصاحب تصفية التفرقة العنصرية في أفريقيا والعالم. وكان مانديلا الحفيد قد قال: "إنّ الحجارة التي يلقيها أطفال فلسطين على جنود الاحتلال تذكّرنا بحق العودة". وكانت مفاجأتي في مشاركة حفيد المهاتما غاندي، الذي يشبه جده غاندي المحرر الهندي الكبير. أما من أفريقيا، فكان هناك أمير محمد من غانا، وغيرهم ممن لم يسعدني الحظ بلقائهم مباشرة.
عمد المؤتمر لوضع أهدافه على طاولات النقاش علناً، انطلاقاً من "أهمية التعاون والتضامن الدوليّين بين المؤمنين بالقضية الفلسطينية، من أجل تحقيق مبادئ العدالة ومساندة الشعوب المظلومة، وفي مقدّمتها الشعب الفلسطيني الذي يتعرّض لأبشع أشكال الظلم واستلاب الحقوق".
وفي بيانه الختامي، عبّر مؤتمر "نداء الأقصى" من دون لبس عن موقفه بمشاركة وموافقة كلّ هذه النخبة من جميع أنحاء العالم، مؤكداً أن "فلسطين قضية ذات أبعاد إنسانية وإسلامية وعالمية". بالفعل، بدت القضية كذلك من خلال هذه المحاور الأربعة، وهي: "مبادئ النهضة الحسينية والقضية الفلسطينية، وشهادات من الواقع الفلسطيني، والدور التاريخي للشعب العراقي في الدفاع عن القضية الفلسطينية، والخطاب الفكري والثقافي وقضية فلسطين".
قلت: هذه القضية لا تموت، ونحن العرب لسنا "الهنود الحمر". أما الفلسطينيون، فقد أبقوا قضيتهم حيّة في وجدان العالم من أجل التحرير النهائي من أقسى استعمار عقائدي وفكري في العصر الحديث.
إذا كانت أسئلتي حائرة قبل مشاركتي في هذا المؤتمر، فإنّ الإجابة التي وجدتها هي أن فلسطين لا تخبو مهما وضعوا عليها ملايين الأطنان من الرمال. ويطيب لي أن أعرّج إلى ورقتي التي كنت قد جهزتها قبل المؤتمر، وعبرت فيها عن موقفي من أقدس قضية عالمية، وأوكّد أن بضع كلمات قد تكون سراجاً في هذا الدرب الطويل.
كتبت في هذه الكلمة:
"إنها الأقدار. مكتوبةٌ في اللوح المحفوظ. محفورةٌ على الجبين. تقود الفؤاد إلى الإيمان بالحقّ والعدل، والفؤاد لا يخشى وعورة الطريق. الحياة الدنيا دائرةٌ. والدائرة أكمل الأشكال. وها هي دائرتي تكتمل. والاكتمال لا يتمّ إلا بالخروج من حال إلى حال.
وحين أردت أن أخرج من حال إلى أخرى، كانت وجهتي العراق، وكنت في شرخ الشباب، وها أنا بينكم في العراق أيضاً، في زيارتي الثانية هذه، وكأنّ كلّ شيء يبدأ من هذه الأرض؛ أرض الرافدين.
قد يتساءل سائلٌ: لماذا قدم هذا الرجل وقد أضحى على مشارف السبعين؟ ولماذا حضر وهو يعلم أنَّ الرحلة لا تخلو من متاعب ومخاطر؟
هذا العراق بلدٌ عظيم الشأن للأمة والحضارة، لكنّه في حاضره يعاني اضطرابات ويواجه خطراً مجهزاً من الحاسدين لمخزن الحضارة والأنبياء والأولياء، وهذه كربلاء مدينة الحدّ الفاصل بين الحقّ والباطل في بلاد العرب والمسلمين.
لكن ليعلم السائل أنّ الرجل الماثل أمامكم ترك بلاده والحياة الآمنة حينما كان لا يزال في أوائل عشرينيات عمره، لينخرط في صفوف المقاومة الفلسطينية في بيروت، رفضاً عملياً لما سمّي بمسار السلام مع الكيان الصهيونيّ من قبل القيادة السياسية لبلاده.
وما علاقة هذا بندوتكم تلك؟
إنها علاقةٌ جذريةٌ، وفي صميم اهتمامكم وما تدعون إليه، وإن اختلفت السبل والطرق في الوصول إلى الغاية؛ غاية الحقّ والعدل والتحرر.
لقد انحزت إلى الفكر اليساريّ بتعريفه الواسع منذ أن تفتح وعيي السياسيّ. وفي تلك البدايات، قرأت كتاب المناضل الراحل الدكتور فتحي عبد الفتاح المعنون "شيوعيون وناصريون". في هذا الكتاب العمدة، يرصد الكاتب ملحمة تراجيدية عاشها العشرات من النخب اليسارية المصرية، من مثقفين ومفكرين وكتاب وصحافيين وعمال وطلاب؛ ملحمة تجاوزت السنوات الخمس، وجرت وقائعها في معتقل الواحات الرهيب الواقع في صحراء مصر الغربية.
كان الكاتب يبدأ فصول الكتاب بمقاطع شعري، لكبار الشعراء العالميين والعرب، وبكلمات مأثورة لكبار الفلاسفة والمفكرين، تدعم فكره الثوريّ. كان ضمن تلك المقولات مقاطع مختارةٌ من مسرحيات الكاتب الكبير الراحل عبد الرحمن الشرقاوي: "الحسين ثائراً والحسين شهيداً"، فاستوقفني كثيراً ما أورده الشرقاوي على لسان الإمام الحسين:
فلتذكروني بالنضال. فلتذكروني عندما تغدو الحقيقة وحدها حيرى حزينة. فلتذكروا ثأري العظيم لتأخذوه من الطغاة، وبذاك تنتصر الحياة.
كأنّ تلك العبارات وضعتني على الطريق لانتصار الحياة، والذي يكون بدعم الحقّ وأخذ الثأر من الطغاة والمحتلّين والمستكبرين، وهل هناك قضيةٌ يسطع فيها الحقّ كقضية تحرير أرض فلسطين؟
من هنا بدأ التمازج بيني وبين فكر وسيرة الإمام الحسين عليه السلام، بعد أن عكفت على قراءة سيرته ومسيرته. وقد جسّدت، وبحقّ، قيم البطولة والفداء والإيثار والتضحية والعزة وإعلاء قيم الحقّ والعدل.
كانت النبراس الذي جعلني قابضاً على إيماني بعدالة القضية الفلسطينية. وقد ترسّخ هذا الإيمان وما زال حاضراً منذ ما يربو على نصف قرن، واضعاً قضية أرض فلسطين في فؤادي وعلى جبيني وأمام ناظري.
وها أنا أتيت من مكان بعيد، وحضرت تلبية لدعوة، وجئت لأكون قريباً من مسيرة الحسين كفكرة عميقة، سوف تشقّ الطريق يوماً إلى فلسطين".
انتهت كلمتي، لكن لم ينتهِ صدى الكلمات في أذني عن أن فلسطين ستتحرر يوماً مع الأجيال، وستنتهي أسطورة الحرب العالمية الثانية، إذ لم تكن قد انتهت بالفعل مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية وتهشيم نظام الحرب العالمية الثانية، وفي القلب المستوطنة الغربية المتقدمة على أرض فلسطين.
بقلم / إلهامي المليجي
المصدر : الميادين