البث المباشر

الأربعين؛ انعكاس الآيات القرآنية في سياق حركة عالمية

السبت 9 أغسطس 2025 - 14:23 بتوقيت طهران
الأربعين؛ انعكاس الآيات القرآنية في سياق حركة عالمية

إن الأربعين تجسيد حيّ لآيات القرآن الكريم؛ رمزٌ للصبر (البقرة/١٥٣)، الإيثار (الحشر/٩)، مكافحة الظلم (هود/١١٣)، وحياة الشهداء (آل عمران/١٦٩). كما تعد مسيرة الأربعين تجسيدا عمليا للمفاهيم القرآنية في إطار حركة عالمية.

يستعد ملايين الناس في الأيام التي تسبق الأربعين، من جميع أنحاء العالم للمشاركة في أحد أكبر التجمعات الدينية في العالم. ظاهرة ليست مجرد طقس شيعي، بل هي مرآة حية لمفاهيم قرآنية عميقة كالعدالة، الصبر، التضحية والإيثار، المقاومة والوحدة.

فلا ينبغي إغفال الأبعاد القرآنية للأربعين؛ حركة متجذرة اليوم ليست فقط في جغرافية العراق وإيران، بل أيضًا في الضمير العالمي للصحوة الإسلامية.

إذا كانت عاشوراء تجليًا لنداء "هل من ناصر" بلسان القرآن الناطق، الإمام الحسين (عليه السلام)، فإن الأربعين استجابة عالمية لذلك النداء. وملايين الزوار من مختلف الأعراق والأديان واللغات، في مسيرة الأربعين، يُظهرون أن انتفاضة عاشوراء ليست مجرد حدث تاريخي، بل هي منهج قرآني حي.

 

انتفاضة ضد الظلم؛ الأربعين في ضوء آية "لا تركنوا"

إن من أبرز تعاليم القرآن الكريم تحذير واضح للناس من الصمت أو التعاطف مع الظلم. كما يقول الله تعالى: «وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ» (هود، ١١٣).

في هذه الآية، يُحذر الله تعالى من خطورة الميل القلبي والذهني نحو الظلم والظالمين. وهذا أكثر من مجرد ظلم؛ إنه نوع من اللامبالاة أو القبول الخفي بالأنظمة الفاسدة.

إن مسيرة الأربعين هو استمرارٌ للرواية التي شكك فيها الإمام الحسين (عليه السلام) بشرعية خلافة يزيد الفاسدة، من خلال انتفاضةٍ محدودةٍ ولكن واعية. وأن المشاركة الطوعية لملايين الناس في هذه المراسم هو شكلٌ من أشكال التضامن التاريخي مع البحث عن الحقيقة ورفض التواطؤ مع الظلم، وهو ما لم يكن نابعًا من مشاعر دينية فحسب، بل من إيمانٍ واعٍ بالمسؤولية الاجتماعية والتاريخية.

 

الشهادة: الحياة الحقيقية من منظور القرآن

لا يعتبر القرآن الكريم الشهادة موتًا، بل حياةً أبديةً في سبيل الله:  «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا» (آل عمران، ١٦٩).

تقول هذه الآية عن الذين قُتلوا في سبيل الله إنهم أحياءٌ عند ربهم يرزقون. وهذه الحياة ليست بالمعنى المادي، بل هي استمرارٌ للتأثير في التاريخ.

وعليه، فإن الأربعين ليس ذكرى استشهاد، بل هو إحياءٌ لـ "الأثر الحي" لواقعة ما. أي أن عاشوراء لم تكن نهاية حركة، بل بداية مسيرة حياة. وأن حضور ملايين الناس هو انعكاسٌ للإيمان بهذا المفهوم، بأن الشهيد لا يُقضى عليه بالموت الجسدي، بل يصبح قدوةً ونموذجًا لحياة من بعده.

في الواقع، الأربعين هو ذكرى حياة مسيرة وفكرة. وأن هذا الحشد المليوني هو الإحياء التاريخي لحقيقة أراد الأعداء دفنها في كربلاء.

 

الصبر، إيصال الرسالة ودور النساء في المقاومة

يؤكد القرآن الكريم على الصبر كعلامة على التقوى، ورفقة الله بالصابرين: «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» (البقرة، ١٥٣).

لا يُقدِّم القرآن الكريم الصبرَ كسمة فردية فحسب، بل كاستراتيجية اجتماعية لتحقيق النصر والمستقبل المنشود. وأن مسيرة الأربعين، التي تُجسِّد نهج عاشوراء ورسالته، تُذكِّرنا بأن النصر ليس بالضرورة في ساحة المعركة أو نتيجة فورية.

إن صبر السيدة زينب (س) على الأسر، ورسالة الإمام السجاد (ع)، جعلا عاشوراء ذكرى خالدة في الأذهان. كما يُظهر زوار الأربعين، بحضورهم في حركة جماعية صابرة، أن طريق الحق ليس طريقًا قصيرًا بلا معاناة، وأن المستقبل لمن يصمد، لا لمن يستسلم.

 

ثقافة التضحية والمواساة؛ الأربعين في ضوء آية "يؤثرون"

إن المشاهد التي نراها على طريق النجف إلى كربلاء مُذهلة: أناسٌ يُسخّرون كل ثرواتهم لخدمة الزوار؛ بابتسامةٍ وفخر. وهذه الثقافة مثالٌ عمليٌّ على هذه الآية القرآنية: «وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ» (الحشر، 9).

ويتحدث القرآن الكريم في هذه الآية،  عن الذين يُقدّمون الآخرين على أنفسهم، حتى لو كانوا في محنة وضيق ما.

خلال مراسم الأربعين، يُكرّس آلافٌ من قادة المواكب جزءًا كبيرًا من حياتهم اليومية ودخلهم وراحتهم لاستضافة الزوار. وهذا النوع من الكرم المُتفاني، القائم على كرامة الإنسان، هو مثالٌ عمليٌّ على هذا المبدأ القرآني. وهذه التضحية والإيثار عملٌ دينيٌّ قائمٌ على الفهم القرآني لاستضافة وخدمة الزوار الحسينيين.

 

الذكر والتذكير؛ أساس الصحوة القرآنية

يُعتبر الذكر والتذكير في القرآن الكريم ركنين أساسيين من أركان الصحوة الإنسانية: «فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ» (الأعلى، ٩).

يخلّد الأربعين ذكرى الثورة التي لم يُضَحَّ فيها بالحق من أجل المنافع. إنها حركة تُوقظ الفطرة البشرية. وتُمثّل هذه المسيرة العظيمة وسيلةً حيةً لتذكر الحقيقة في عالم اليوم الذي غلب عليه النسيان. ولم يمرّ هذا التذكير عبر القنوات التعليمية أو الإعلامية أو الرسمية، بل حُفِرَ في الذاكرة الجماعية للشعب. ولذلك، أصبح الأربعين "مدرسةً عامةً للتوعية" يُعَدّ الحضور فيها تذكيرًا فاعلًا.

 

الأربعين: الوحدة في ضوء القرآن الكريم

على الرغم من التنوع العرقي واللغوي والديني لزوار الأربعين، إلا أنهم جميعًا يسيرون بشعار واحد: "لبيك يا حسين". وهذه الوحدة تجسيدٌ لآيةٍ من القرآن الكريم: «إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً». (الأنبياء، ٩٢).

إن الأربعين رمزٌ لوحدة الأمة الإسلامية في وقتٍ تدق وسائل الإعلام العالمية على طبول الفرقة. وهذه المسيرة فرصةٌ لإعادة تعريف التعايش السلمي الإسلامي الإنساني.

 

الهجرة إلى الحق

إن الأربعين نوعٌ من الهجرة؛ هجرةٌ من الفردية إلى الجماعية، من طلب الرفاهية إلى السعي، من النسيان إلى التذكر. ويُمجِّد القرآن الكريم الهجرة في سبيل الله في عدة آيات: «إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً». (البقرة، ٢١٨).

ليست الهجرة في القرآن الكريم، مجرد انتقال إلى مكان، بل هي حركة واعية نحو فضاء لحفظ المعتقدات والممارسات الدينية. ورغم التعب والمخاطر والحر والصعوبات المادية والاقتصادية، يرحل زوار الأربعين إلى كربلاء من كل حدب وصوب.

هذه الهجرة الطوعية لتكريم عقيدة تُشبه الهجرة القرآنية المصحوبة بالإيمان والجهاد. فهم لا يسلكون هذا الطريق للمتعة أو الطقوس، بل لإعادة تعريف هويتهم الدينية والأخلاقية في ضوء الثقافة الحسينية.

 

الأربعين وإمكانية الحوار بين الثقافات

إن الأربعين ليس مجرد حدث ديني؛ بل هو دبلوماسية ثقافية عابرة للحدود. وأن مشاركة الزوار من مختلف البلدان، والتفاعل المباشر بين الأمم، وأجوائه المفعمة بالمحبة، تُوفر منصة فريدة للحوار بين الأديان والثقافات والحضارات.

ويؤكد القرآن الكريم على هذه المنصات كالتفاعل الإنساني: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ... لِتَعَارَفُوا»(الحجرات، ١٣).

في الواقع، الأربعين ليس مجرد طقس ديني أو تقليد شيعي، بل ظاهرة عالمية، أصبحت اليوم، انطلاقًا من تعاليم القرآن الكريم، حركة حضارية وأخلاقية وإنسانية.

وهذه المسيرة لغة تخاطب قلوب أحرار العالم دون الحاجة إلى الترجمة؛ لغة نقلت تعاليم القرآن الكريم الأصيلة من صفحات الأوراق إلى واقع اجتماعي.

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة