من يعرفه حق المعرفة يتبادر الى ذهنه القول المأثور عن المعصوم (ع): (إن الله أخفى أولياءه بين عباده). هذا الرجل كان ثقة الامام الخميني ورفيق مسيرته منذ انطلاق الثورة في أوائل الستينات، وكان مندوب الإمام الخميني الخاص لدى السلطات الرسمية العراقية طيلة فترة إقامة الإمام الخميني في النجف الأشرف بدءاً من عام 1964 حتى 1978، وكان الإمام الفقيد يكلّفه بأموره الخاصة وهو بمثابة مندوبه الخاص ولسانه الناطق أيام هجرته في العراق، حتى عندما طلب الرئيس الأسبق احمد حسن البكر تخصيص إذاعة عراقية باللغة الفارسية تبث برامجها ضد نظام الشاه محمد رضا بهلوي، أوفد مندوباً خاصاً لبيت الإمام في شارع الرسول بالنجف الأشرف وطلب من الإمام الراحل أن يعيّن شخصاً ثقة كامل الصلاحية ليكون مديراً ومسؤولاً عن تلك الاذاعة، فقرر الإمام آنذاك اختيار السيد محمود دعائي لهذه المهمة. فكان يسافر السيد محمود فجر كل يوم من النجف الأشرف الى بغداد حاملاً معه المواد والمقالات والنداءات الموجهة للشعب الإيراني، من قبل قائد الثورة الاسلامية. وفعلاً كان هذا الرجل أهلاً لهذا العمل الذي كلّفه به الإمام لفضح ممارسات الشاه وقمعه الشعب الايراني وعمالته لأمريكا والغرب والكيان الصهيوني.
وبعد انتصار الثورة الإسلامية قرر الإمام الراحل تعيينه كأول سفير للجمهورية الإسلامية في العراق. وقام بتسليم رد الإمام الخميني على رسالة البكر الخطية له، وفي ختامها (والسلام على من اتبع الهدى). طبعاً بعد فترة قصيرة ساءت العلاقات بين بغداد وطهران نتيجة طيش المقبور صدام فعاد السيد محمود دعائي الى ايران وعيّنه الإمام الخميني ممثلاً خاصا له في مؤسسة "اطلاعات" الاعلامية الكبرى. وبعد تعيينه فكّر دعائي بإطلاق صحيفة باللغة العربية وطرح اقتراحه هذا، وانعقد اجتماع آنذاك في مكتبه حضرتُه وطرحت افكاراً عديدة واقتراحات متنوعة على السيد دعائي وكان يصغي إليّ باهتمام ودقة ويسجل ملاحظاته. ولكن صدرت (كيهان العربي) آنذاك فتوقفت مؤسسة اطلاعات عن مشروعها.
وعندما جرت أول انتخابات لمجلس النواب الإيراني (مجلس الشورى) طُلب منه أن يرشح نفسه، وفعلاً فاز في كل الانتخابات النيابية المتتابعة فكان عضواً في كل المجالس النيابية المتوالية المنتخبة منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية حتى البرلمان قبل الأخير الذي امتنع عن الترشح له.
وخلال فترة عضويته في مجلس الشورى الإسلامي لم يستلم السيد دعائي ريالاً واحداً من مرتباته وطلب من قسم الحسابات في البرلمان دفعها للفقراء والأيتام المحتاجين مباشرة، وكان يقول: إن النائب هو خادم للشعب ولا ينبغي ان يأخذ إزاء خدمته راتباً.
ومرة شاهدتُه في مترو طهران المزدحم جداً، فكان رحمه الله واقفاً محشوراً كغيره من آلاف المسافرين الذين يغص بهم المترو، وسط تدافع الركاب، مادّاً يده الى القضيب الحديد في السقف ليتفادى شدة التدافع والزحام، مع زيه العلمائي وعمامته، ووجهه يتصبّب عرقاً فقمتُ له لكي يجلس في مكاني واقتربت منه بصعوبة بالغة وسلمت عليه فرفض الجلوس وواجهني بابتسامته المعهودة وتواضعه الجم ورد السلام علي بحفاوة وقال لي: سررت برؤيتك اين تعمل الان؟ فقلت له: دبلوماسياً في الدوحة منذ ٨ سنوات، ثم قلت له: يا سيدنا ليت باقي المسؤولين يأتون الى وسط الناس هكذا مثلك ويطلعون على أحوالهم ويلمسون معاناتهم وينحشرون في المترو وقوفاً عسى أن يضعوا حلاً لازمة المواصلات فقال (نعم فعلاً، ليتهم يأتون!) وأطرق برأسه مبتسماً والعرق يتصبب من وجهه بغزارة.
ويكفي لمعرفة نزاهة هذا الرجل أن أخ زوجته هو جارنا، ويعمل سائق تكسي بسيارة قديمة متهالكة ويسكن في شقة بسيطة بعمارة قديمة بلا مصعد وأهل زوجته عراقيوا الأصل، ولم يستفد صهره من منصبه شروى نقير، ولم يستغل قربه منه بمقدار رأس إبرة، بل يعمل كأي سائق سيارة أجرة.
واليوم توفي السيد دعائي عن عمر ناهز 81 عاماً مأسوفا عليه من كل أطياف الساحة السياسية الإيرانية [الاصلاحيون والأصوليون] والكل يقولون: "اللهم إنّا لا نعلم منه الا خيراً ".
رحمة الله عليه
بقلم: د.رعدجبارة
باحث ودبلوماسي سابق