البث المباشر

الشهداء الصحابة في نهضة عاشوراء (2)

الأربعاء 18 أغسطس 2021 - 17:24 بتوقيت طهران
الشهداء الصحابة في نهضة عاشوراء (2)

يزين سماء النهضة الحسينية شهداء كبار التحقوا بركب أبي الأحرار ، منهم كانوا من صحابة النبي الأكرم(ص)، فرافقوا الثورة الحسينية إيمانا وإخلاصا للدين الإسلامي وأهل بيت النبي. يزودنا البحث الآتي بأسماء هؤلاء الشهداء الميامين بعد مجمل عن مفهوم الصحابة ومواقفهم وترجماتهم في جزئين قبل واقعة الطف وأثناء الطف.

 

تقدم الكلام (في الجزء الأول عن تراجم الصحابة الذين استشهدوا قبل واقعة الطف وبقي الكلام في الذين استشهدوا أثناء الواقعة).

 

تراجم الصحابة الذين استُشهدوا في واقعة الطف:

وهم ستة: أنس بن الحارث، وحبيب بن مظاهر الأسدي، وعبد الرحمن بن عبد رب، وعمار الدالاني، ومسلم بن عوسجة الأسدي، ويحيى بن هاني بن عروة.

 

1ـ أنس بن الحارث الكاهلي

صحابي وابن صحابي ذكره ابن الأثير في أُسد الغابة[50]، وابن حجر في الإصابة[51]، وعدّه الطوسي في أصحاب النبي صلى الله عليه وآله ونصّ على أنه قُتل مع الحسين عليه السلام[52].

 

وبنو كاهل من بني أسد بن خزيمة من عدنان، منازلهم كانت بالكوفة[53]، وذكر صاحب إبصار العين نسبه بالشكل الآتي: أنس بن الحرث بن نبيه بن كاهل بن عمرو بن صعب بن أسد بن خزيمة. ولم يشر إلى المصدر، كما لم نعثر على ذلك في أُمهات المصادر بحدود اطلاعنا، ونقل المحلاتي نسبه المزبور في هامش فرسان الهيجاء[54] زاعماً أن العسقلاني ذكره في الإصابة ولم نجده.

 

وعلى أيّ حال، فإن أنس بن الحارث من كبار الصحابة، وممن رأى النبي صلى الله عليه وآله، وسمع حديثه، وروى عنه، وكان ذا مكانة اجتماعية عريضة في قومه وفي الكوفة، وعنه روى الفريقان حديث كربلاء، إذ قال ـ كما تقدّم ـ: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إن ابني هذا ـ يعني الحسين عليه السلام ـ يُقتل بأرض يُقال لها: كربلاء، فمن شهد ذلك منكم فلينصره». ويكيفه نبلاً وعظمة وفخاراً موقفه الكربلائي في الذب عن آل الرسول صلى الله عليه وآله حتى أُريق دمه وأُزهقت نفسه، ويالها من نفس كريمة.

 

قال المقرّم: «وكان أنس بن الحارث بن نبيه الكاهلي شيخاً كبيراً صحابياً رأى النبي صلى الله عليه وآله وسمع حديث، وشهد معه بدراً وحنيناً، فاستأذن الحسين عليه السلام وبرز شادّاً وسطه رافعاً حاجبيه بالعصابة، ولما نظر إليه الحسين عليه السلام بهذه الهيئة بكى، وقال: شكر الله لك يا شيخ، فَقَتل على كبره ثمانية عشر رجلاً وقُتل»[55].

 

وفي إبصار العين: «قال الجرزي: وعداده في الكوفيين، وكان جاء إلى الحسين عليه السلام عند نزوله كربلاء والتقى معه ليلاً فيمن أدركته السعادة. وروى أهل السير أنه لمّا جاءت نوبته استأذن الحسين عليه السلام في القتال فأذن له وكان شيخاً كبيراً، فبرز وهو يقول:

قد علمت كاهلها ودودان

والخندفيون وقيس عيلان

بأن قـومـي آفـة للأقـران

 

ثم قاتل حتى قُتل رضي الله عنه»[56]. وذكر الصدوق رجزاً قريباً من هذا لمن سماه مالك بن أنس الكاهلي[57]. إلّا أن الشيخ شمس الدين اعتبر أن هذا تصحيفاً واشتباهاً، وأن صاحب الرجز هو أنس بن الحارث الكاهلي، وليس مالك بن أنس، حيث قال: «وذكر ابن شهر آشوب والخوارزمي مصحّفاً بـمالك بن أنس الكاهلي وذكره في البحار مصحّفاً بـمالك بن أنس المالكي وصححه بعد ذلك ابن نما الحلي»[58].

 

2ـ حبيب بن مظاهر الأسدي

أبو القاسم حبيب بن مظاهر مظهر بن رئاب بن الأشتر بن حجوان بن فقعس بن طريف بن عمرو بن قيس بن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد الأسدي الكندي ثم الفقعسي[59].

 

وفي رجال ابن داود: حبيب بن مظَهِّر بفتح الظاء وتشديد الهاء وكسرها[60]، قال الأمين: «والذي في أكثر النسخ من كتب التاريخ وغيرها مظهّر بوزن مطّهر وهو الصواب، وما في الكتب الحديثة أنه مظاهر خلاف المضبوط قديماً»[61].

 

وفي مجالس المؤمنين حبيب بن مظاهر الأسدي محسوب من أكابر التابعين، ثم حكى عن كتاب روضة الشهداء ما ترجمته: أنه تشرف بخدمة الرسول صلى الله عليه وآله وسمع منه أحاديث، وكان معززاً مكرماً بملازمة المرتضى عليه السلام[62].

 

وفي الإصابة: «حتيت[63] بن مظهر بن رئاب بن الأشتر بن جحوان بن فقعس الكندي الفقعسي، له إدراك، وعمّر حتى قُتل مع الحسين بن علي، ذكره ابن الكلبي مع ابن عمه ربيعة بن خوط بن رئاب»[64]. إلّا أنه عندما ترجم ابن عمه ربيعة ذكره باسم حبيب وليس حتيت، ولعل هذا خطأ وتصحيف وقع من النسّاخ.

 

بلغ الخامسة والسبعين من العمر يوم كربلاء، اكتسب خلالها الكثير من الفضائل، وصحب فيها النبي[65]، وكان من خواصّ أصحاب علي عليه السلام وحملة علومه، واشترك في حروبه الثلاثة: الجمل وصفين والنهروان[66]، وكان من شرطة الخميس[67]، ثم لازم الحسن السبط عليه السلام ونزل الكوفة حتى وردها الحسين عليه السلام، فكان من السعداء الذين لحقوا بقافلته.

 

وكان حبيب من أعلام قبيلة بني أسد وفرسانها، ومن رجال الأُمة الصالحين وثقاتها، ولهذا اختصه الحسين إذ جعله على ميسرة جيشه[68]، فكان واحداً من الرجال الذين نصروا الحسين عليه السلام، ولقوا جبال الحديد، واستقبلوا الرماح بصدورهم والسيوف بوجوههم وهم يعرض عليهم الأمان والأموال فيأبون ويقولون: لا عذر لنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله إنْ قُتل الحسين ومنّا عين تطرف حتى قُتلوا حوله[69].

 

من فضائله

قال الكشي: «مر ميثم بن التمار على فرس له فاستقبل حبيب بن مظاهر الأسدي الفقعسي عند مجلس بني أسد، فتحدثا حتى اختلفت أعناق فرسيهما، ثم قال حبيب: لكأني بشيخ أصلع ضخم البطن، يبيع البطيخ عند دار الرزق، قد صُلب في حب أهل بيت نبيه، تُبقر بطنه على الخشبة، فقال ميثم: وإني لأعراف رجلاً أحمر له ضفيرتان، يخرج لنصرة ابن بنت نبيه، فيُقتل ويُجال برأسه بالكوفة، ثم انصرفا. فقال أهل المجلس: ما رأينا أحداً أكذب من هذين. قال: فلم يفترق أهل المجلس حتى أقبل رشيد الهجري، فطلبهما فسأل أهل المجلس عنهما، فقالوا: افترقا وسمعنا مما يقولان كذا وكذا. فقال رشيد: رحم الله ميثماً نسي: يزداد في عطاء الذي يجيء بالرأس مائة درهم، ثم أدبر. فقال القوم: هذا والله، أكذبهم. فقال القوم: والله، ما ذهبت الأيام والليالي حتى رأيناه مصلوباً على باب دار عمرو بن حريث، وجيء برأس حبيب قد قُتل مع الحسين بن علي عليهما السلام ورأينا كل ما قالوا»[70].

 

أقول: وهذه الرواية تدل على عدة أُمور مهمّة، منها:

 

الأمر الأول: أنها تدل على أن حبيباً كان من خواصّ أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام وحواريه، ومن حملة علومه وأسراره، ومن حملة علم المنايا والبلايا.

 

الأمر الثاني: أنها تدل على عظمة شخصيته ورباطة جأشه واستعداده لذلك اليوم، وتهيئه للتضحية في سبيل دينه وعقيدته.

 

الأمر الثالث: أنها تنفعنا في مقام السؤال عن موقف حبيب تجاه حركة مسلم بن عقيل، وعن السر في عدم لعب دور في تلك الحركة، وعدم ظهوره على مسرح الأحداث في مصرع مسلم.

 

وكان حبيب من الشيعة الذين اجتمعوا في دار سلميان بن صرد الخزاعي بعد هلاك معاوية وكتبوا إلى الحسين عليه السلام أن أَقدم إلى الكوفة، وكان من المستقبلين لمسلم بن عقيل، قال الطبري: «ثم أقبل مسلم حتى دخل الكوفة، فنزل في دار المختار بن أبي عبيد الثقفي... وأقبلت الشيعة تختلف إليه، فلما اجتمعت إليه جماعة منهم قرأ عليهم كتاب الحسين، فأخذوا يبكون، فقام عابس بن أبي شبيب الشاكري، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإني لا أخبرك عن الناس ولا أعلم ما في أنفسهم وما أغرك منهم، والله، أحدثك عما أنا موطّن نفسي عليه، والله، لأجيبنّكم إذا دعوتم، ولأقاتلن معكم عدوكم، ولأضربن بسيفي دونكم حتى ألقى الله؛ لا أُريد بذلك إلّا ما عند الله، فقام حبيب بن مظاهر الفقعسي، فقال: رحمك الله قد قضيت ما في نفسك بواجز من قولك، ثم قال: وأنا ـ والله الذي لا إله إلّا هو ـ على مثل ما هذا عليه»[71].

 

حبيب في كربلاء

بعد قمع حركة مسلم ونيله شرف الشهادة اختفى المخلصون من رجاله كحبيب، وعابس الشاكري، ومسلم بن عوسجة... وآخرون، يتربصون ويتأملون وصول الحسين عليه السلام إلى الكوفة، إلّا أنه عليه السلام لم يصلها، بل جعجع به الحر وأنزله بوادي كربلاء، ولم يرد في كتب التاريخ كيف وصل خبر نزول الحسين عليه السلام في كربلاء إلى حبيب، سوى خبر مرسل لا يعوّل عليه ذكره صاحب فرسان الهيجاء[72].

 

والمهم أن الأخبار كانت تصل الكوفة؛ لأنها مقر إمارة ابن مرجانة، ومنها تصدر أوامر المواجهة، والحسين عليه السلام نزل كربلاء في اليوم الثاني من محرم، وبقي فيها إلى اليوم العاشر حيث كانت الواقعة[73]، وخلال هذه الفترة كانت تصل الأخبار، فعزم حبيب على الالتحاق بركب الخلود، فاتصل بابن عمه مسلم بن عوسجة وأقبلا يجدّان السير في الليل ويكمنان في النهار، حتى وصلا إلى معسكر الحسين[74].

 

حبيب يدعو بني أسد لخير الدارين

لما رأى حبيب قلة أنصار الحسين عليه السلام وكثرة عدوه استأذنه، قائلاً: «إن هاهنا حيّاً من بني أسد فلو أذنت لي لسرت إليهم ودعوتهم إلى نصرك، لعل الله أن يهديهم أو يدفع بهم عنك، فأذن له الحسين عليه السلام، فسار إليهم حتى وافاهم، فجلس في ناديهم ووعظهم، وقال في كلامه: يا بني أسد، قد جئتكم بخير ما أتى به رائد إلى قومه، هذا الحسين بن علي أمير المؤمنين وابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله، وقد نزل بظهرانيكم في عصابة من المؤمنين، وقد أطافت به أعداؤه ليقتلوه، فأتيتكم لتمنعوه وتحفظوا حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله فيه، فوالله، لئن نصرتموه ليُعطينكم الله شرف الدنيا والآخرة... فقام عبد الله بن بشير الأسدي، وقال: شكر الله سعيكم يا أبا القاسم، فو الله، لجئتنا بمكرمة يستأثر بها المرء الأحبّ فالأحبّ! أمّا أنا فأوّل مَن أجاب، وأجاب جماعة[75] بنحو جوابه... وانسلّ رجل منهم، فأخبر ابن سعد، فأرسل الأزرق في خمسمائة فارس، فعارضهم ليلاً ومانعهم فلم يمتنعوا فقاتلهم[76] فقُتل منهم جماعة... وعاد حبيب ليخبر الحسين بما حصل، فقال عليه السلام: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّـهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ولا حول ولا قوة إلّا بالله»[77].

 

حبيب في ليلة العاشر

خرج الحسين عليه السلام ليلة العاشر من المحرم يتفقد التلاع، فأحسّ بخطى رجل من خلفه، فالتفت وقال: «من الرجل؟ نافع؟. قال: نعم، جُعلت فداك يا بن رسول الله. قال عليه السلام: ما أخرجك يا نافع، في هذا الليل؟ قال: سيدي أزعجني خروجك ليلاً إلى جهة هذا الباغي. فقال عليه السلام: يا نافع خرجت أتفقد هذه التلاع مخافة أن تكون مكمناً لهجوم الخيل على مخيّمنا يوم يحملون وتحملون».

 

ثم يروي نافع قول زينب عليها السلام حينما صارحها الحسين عليه السلام بما سيجري في الغد: «وا أخاه واحسيناه، أشاهد مصرعك وأُبتلى برعاية هذه المذاعير من النساء، والقوم ـ يا بن أُمي كما تعلم ـ ما هم عليه من الحقد القديم، ذلك خطب جسيم، يعزّ لي مصرع هذه الفتية وأقمار بني هاشم، ثم قالت: يا بن أُمي، هل استعلمت أصحابك نياتهم فإني أخاف أن يُسلموك عند الوثبة واصطكاك الأسنة، فبكى الحسين، وقال: أما والله، لقد بلوتهم فما رأيت فيهم إلّا الأشوس الأقعس، يستأنسون بالمنية دوني استئناس الطفل بلبن أُمه».

 

فبكى نافع، ثم أتى حبيب بن مظاهر وأخبره بالأمر، «فبرز حبيب ناحية ونافع إلى جنبه وانتدب أصحابه فنادى: أين أنصار الله؟ أين أنصار رسول الله صلى الله عليه وآله؟ أين أنصار أمير المؤمنين؟ أين أنصار فاطمة؟ أين أنصار الحسين؟ أين أنصار الإسلام؟ فتطالعوا من منازلهم كالليوث الضارية، يقدمهم أبو الفضل العباس عليه السلام، فلما اجتمعوا، قال لبني هاشم: ارجعوا إلى منازلكم لا سهرت عيونكم، ثم خطب أصحابه فقال: يا أصحاب الحمية، وليوث الكريهة، هذا نافع بن هلال يخبرني الساعة بكذا وكذا، فأخبروني عن نياتكم، فجردوا صوارمهم، ورموا عمائمهم، وقالوا: أما والله، يا بن مظاهر لئن زحف القوم إلينا لنحصدن رؤوسهم ولنلحقنهم بأشياخهم، ولنحفظن رسول الله صلى الله عليه وآله في عترته وذريته. فقال لهم حبيب: معي.. معي، فقام يخبط الأرض بهم وهم يعدون خلفه حتى وقف بين أطناب المخيم... فخرج الحسين عليه السلام وقال: جزاكم الله عن أهل بيت نبيكم خيراً، وخرجت حرائر آل البيت إليهم باكيات معولات قائلات: أيها الطيبون، حاموا عن بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وحرائر أمير المؤمنين عليه السلام. فضج القوم بالبكاء حتى كأن الأرض تميد بهم»[78].

 

حبيب يوم العاشر

كان حبيب على رأس ثلث جنود الحسين، حيث إنه عليه السلام لمّا أصبح يوم عاشوراء صلى بأصحابه صلاة الصبح، ثم قام خطيباً فيهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله تعالى أذن في قتلكم وقتلي فعليكم بالصبر والقتال.

 

ثم صفّهم للحرب.. فجعل زهير بن القين على الميمنة وحبيب بن مظاهر على الميسرة، وثبت هو في القلب وأعطى رايته أخاه العباس[79]. وهذا الفعل من الإمام إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على أهمية الرجل، وسمو مقامه وثقله عند النزال.

 

ولمّا حمي الوطيس حمل عمرو بن الحجاج في أصحابه على الحسين عليه السلام من نحو الفرات، فاضطربوا ساعة، فصُرِع مسلم بن عوسجة الأسدي، ولما انصرف ابن الحجاج وانقطعت الغبرة، وجدوا مسلماً صريعاً بين القتلى وبه رمق، فمشى إليه الحسين، فقال: رحمك الله يا مسلم فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا[80]، ودنا منه حبيب بن مظاهر، فقال له: عزَّ عليّ مصرعك يا مسلم، أبشر بالجنة[81].

 

مصرع حبيب

ولما انتصف النهار رمق أبو ثماثة الصائدي الشمس بطرفه وقد زالت، فقال للإمام الحسين عليه السلام: نفسي لك الفداء، إني أرى هؤلاء قد اقتربوا منك، لا والله، لا تُقتل حتى أُقتل دونك ـ إن شاء الله ـ وأُحبّ أن ألقى ربّي وقد صلينا هذه الصلاة التي قد دنا وقتها، فرفع الحسين عليه السلام رأسه، وقال: ذكرت الصلاة، جعلك الله من المصلين الذاكرين، نعم هذا أول وقتها، ثم قال عليه السلام: سلوهم أن يكفّوا عنا حتى نُصلي، فصاح الحصين بن تميم: إنها لا تُقبل. فقال له حبيب: زعمت أن الصلاة لا تُقبل عن آل الرسول صلى الله عليه وآله وتُقبل منك يا حمار.

 

فحمل الحصين على أصحاب الحسين، فبرز له حبيب بن مظاهر فضرب وجه فرسه بالسيف فشب ووقع عنه، وحمله أصحابه فاستنقذوه، ثم أخذ حبيب يقاتلهم ويرتجز بقوله:

أقسم لو كان لكم أعدادا

أو شطركم وليتم أكتادا

يـا شـر قـوم حسبـاً وآدا

 

وكان يرتجز أيضا بقوله:

أنا حبيب وأبي مظهر

أنتم أعـد عُـدة وأكثر

ونحن أعلى حجة وأظهر

فارس هيجاء وحرب تسعر

ونحن أوفى منكم وأصبر

حقاً وأتقى منكم وأعذر

 

وقاتلهم قتالاً شديداً[82]، فقتل على كبر سنه اثنين وستين رجلاً، وحمل عليه بديل بن صريم فضربه بسيفه، وطعنه آخر من تميم برمحه، فسقط إلى الأرض، فذهب ليقوم وإذا الحصين يضربه بالسيف على رأسه فسقط لوجهه، ونزل إليه التميمي واحتزّ رأسه، فهدَّ مقتله الحسين عليه السلام، فقال: عند الله أحتسبُ نفسي وحماة أصحابي واسترجع كثيراً[83].

 

قال الطبري: «إن التميمي لما احتز رأس حبيب، قال له الحصين: إني لشريكك في قتله، فقال الآخر: والله، ما قتله غيري، فقال الحصين: أعطني رأسه أُعلقه في عنق فرسي فيرى الناس ويعلموا أني شركت في قتله، ثم خذه أنت بعد فامض به إلى عبيد الله بن زياد، فلا حاجة لي فيما تُعطاه على قتلك إياه، فأبى عليه فأصلح قومه فيما بينهما على هذا، فدفع إليه رأس حبيب بن مظاهر، فجال به في العسكر، وقد علقه في عنق فرسه، ثم دفعه بعد ذلك إليه، فلما رجعوا إلى الكوفة أخذ الآخر رأس حبيب، فعلقه في لبان فرسه، ثم أقبل به إلى ابن زياد في القصر، فبصر به ابنه القاسم بن حبيب وهو يومئذ قد راهق فأقبل مع الفارس لا يفارقه كلما دخل القصر دخل معه، وإذا خرج خرج معه، فارتاب به فقال: مالك يا بني تتبعني؟ قال: لا شيء. قال: بلى يا بني أخبرني؟ قال له: إن هذا الرأس الذي معك رأس أبي أفتعطينيه حتى أدفنه؟ قال: يا بني، لا يرضى الأمير أن يدفن، وأنا أُريد أن يثيبني الأمير على قتله ثواباً حسناً. قال الغلام: لكن الله لا يثيبك على ذلك إلّا أسوأ الثواب، أما والله، لقد قتلت خيراً منك وبكى.

 

ثم إن القاسم بن حبيب بعدما شبّ وأدرك، ظل يتعقب قاتل أبيه حتى ظفر به في بعض غزوات مصعب بن الزبير، حيث وجده في خيمته وهو قائل نصف النهار، فضربه بالسيف فهلك»[84].

 

دفن حبيب عند رأس الحسين عليه السلام

قال السماوي: «دفنت بنو أسد حبيباً عند رأس الحسين عليه السلامحيث قبره الآن اعتناءً بشأنه، ودفنت بنو تميم الحر بن يزيد الرياحي على نحو ميل من الحسين عليه السلامحيث قبره الآن اعتناءً به أيضاً»[85].

 

أقول: روى الشيخ مرسلاً عن الإمام الرضا عليه السلام أن الذي تولّى دفن الإمام الحسين عليه السلام هو الإمام زين العابدين عليه السلام حيث تسلل من الحبس في الكوفة إلى كربلاء ودفن أباه والشهداء بمساعدة بني أسد، ثم عاد إلى الكوفة دون أن يشعر به الأعداء[86].

 

وهذه الرواية تدل على أن المسألة كانت بنحو المعجزة والكرامة؛ لأن السفر من الكوفة إلى كربلاء والرجوع ثانية يحتاج في ذلك الوقت ما لا يقل عن أسبوع، في حين أن أهل البيت عليهم السلام لم يبقوا في الكوفة سوى ثلاثة أيام، ثم سرّحوا بهم إلى الشام.

 

3. عبد الرحمن بن عبد رب الأنصاري الخزرجي

من الشخصيات البارزة في الكوفة[87]، وممن أخلص الصحبة لعلي عليه السلام[88]، ويبدو أنه سكن الكوفة أيام أمير المؤمنين عليه السلام، وبقي ملازماً للإمام حيث علّمه القرآن ورباه[89]، وبقي يسكن الكوفة إلى حين شهادته، وهو أحد الذين كانوا يأخذون البيعة للحسين في الكوفة[90]، وهذا لا يتفق مع ما ذكره السماوي من أنه جاء مع الحسين من مكة[91]، اللهم إلّا أن يكون من جملة الوافدين على الحسين عليه السلام فترة إقامته في مكة.

 

ولا توجد ترجمة كافية عن عبد الرحمن هذا سوى نزر من الأخبار القليلة، فلا يعلم تاريخ ولادته ولا عمره يوم استُشهد مع الحسين عليه السلام، ولكن نص جماعة من الرجاليين على أنه كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله.

 

فقد ذكر ابن الأثير في أُسد الغابة بأنه ممن شهد لعلي عليه السلام بحديث الغدير حينما ناشدهم بذلك، إذ: «قام بضعة عشر رجلاً فيهم أبو أيوب الأنصاري، وأبو عمرة بن عمرو بن محصن، وأبو زينب، وسهل بن حنيف، وخزيمة بن ثابت، وعبد الله بن ثابت الأنصاري، وحبشي ابن جنادة السلونيّ، وعبيد بن عازب الأنصاري، وأبو فضالة الأنصاري، وعبد الرحمن بن عبد رب الأنصاري، فقالوا: نشهد أنا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ألا إن الله عز وجل وليي وأنا ولي المؤمنين، ألا فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ مَن ولاه، وعاد مَن عاداه، وأحبّ مَن أحبه، وابغض مَن أبغضه، وأعن مَن أعانه»[92].

 

وقال ابن حجر: «عبد الرحمن بن عبد رب الأنصاري، ذكره ابن عقدة في كتاب الموالاة فيمن روى حديث من كنت مولاه فعلي مولاه»[93].

 

رجل لا يحب الباطل

روى الطبري عن غلام لعبد الرحمن بن عبد ربّه الأنصاري، قال: «كنت مع مولاي فلما حضر الناس وأقبلوا إلى الحسين، أمر الحسين عليه السلام بفسطاط فضُرب، ثم أمر بمسك فميث في جفنة عظيمة أو صفحة، قال: ثم دخل الحسين عليه السلام ذلك الفسطاط فتطلى بالنورة، قال: ومولاي عبد الرحمن بن عبد ربه وبريد بن حضير الهمداني على باب الفسطاط تحتك مناكبهما، فازدحما أيهما يطلي على أثره، فجعل برير يهازل عبد الرحمن، فقال له عبد الرحمن: دعنا فوالله، ما هذه بساعة باطل، فقال له برير: والله، لقد علم قومي أني ما أحببت الباطل شابّاً ولا كهلاً، ولكن والله، إني لمستبشر بما نحن لاقون، والله، إن بيننا وبين الحور العين إلّا أن يميل هؤلاء القوم علينا بأسيافهم، ولوددت أنهم قد مالوا علينا بأسيافهم...»[94].

 

أقول: إنه مما لا شك فيه أن ممازحة برير لعبد الرحمن لا شيء فيها من الباطل أو الكذب والعياذ بالله، وربما هي كلمات تنم عن الابتهاج والفرح والسرور ليس إلّا، وإن رفض عبد الرحمن لهذا المستوى من الهزل في لحظة الجد تكشف لنا عن كمال نفسيّته، وشدته في ذات الله، وعمق تقواه، بحيث أنه ردها على برير، ولم يقبلها إلّا بعد أن بررها برير بأنه مستبشر بلقاء الله وكرامته وفضله من الحور والقصور. رحم الله عبد الرحمن الذي استعجل الرواح للقاء ربه وفاءً لنبيه ولدينه وعقيدته.

 

4ـ عمار الدالاني

قال في الإصابة: «عمار بن أبي سلامة بن عبد الله بن عمران بن رأس بن دالان الهمداني ثم الدالاني، له إدراك وكان قد شهد مع علي مشاهده، وقُتل مع الحسين بن علي بالطف، ذكره ابن الكلبي»[95].

 

ويُنسب عمار تارة إلى همدان، وتارة إلى دالان، وتارة إلى حاشد، وهذه النسب تعود إلى أسماء أجداده. ومن أجداده البارزين في الجاهلية رؤاس أو رأس، ترجم له جمع من المؤرخين منهم الزركلي، إذ قال: رؤاس بن دالان الوادعي الحاشدي من همدان: «جد جاهلي يماني من نسله عمار بن أبي سلامة...»[96].

 

وقال ابن الأثير: «رؤاس بن دالان بن سابقة بن ناشج بن وداعة بن عمرو بن عامر ابن ناشج بن دافع بن مالك بن جشم بن حاشد بن جشم بن خيران بن نوف بن هدان، منهم عمار بن أبي سلامة...»[97].

 

كان عمار من أصحاب أمير المؤمنين، بل من خواص أصحابه، ومن الذين جاهدوا بين يديه في الجمل وصفين والنهروان[98].

 

قال السماوي: «قال أبو جعفر الطبري: وكان من أصحاب علي عليه السلام ومن المجاهدين بين يديه في حروبه الثلاثة، وهو الذي سأل أمير المؤمنين عليه السلام عندما سار من ذي قار إلى البصرة، فقال: يا أمير المؤمنين، إذا أقدمت عليهم فماذا تصنع؟ قال عليه السلام: أدعوهم إلى الله وطاعته، فإن أبو قاتلتهم. فقال أبو سلامة: إذن لن يغلبوا داعي الله»[99].

 

أقول: وقد نص الجلالي بأن عماراً الدالاني من أصحاب علي عليه السلام الذين شاهدوه وهو يرثي الحسين عليه السلام في أرض كربلاء بندائه: صبراً أبا عبد الله[100]، في إشارة إلى ما رواه جمع من المؤرخين من أن أمير المؤمنين عليه السلام مر بنينوى كربلاء فقال: «صبراً أبا عبد الله صبراً بشط الفرات...»[101].

 

ونصّ بعضهم على أن عماراً هذا قُتل في الحملة الأُولى[102]؛ لأنه لم يرد له أيّ رجز، ولم يذكر في المبارزات الفردية، والأخبار عن سيرته بعد ذلك قليلة، فلا يعرف أين وُلد ومتى، وكم عمره يوم شهادته، ولا ضير فإن موقفه في كربلاء وشهادته فيها يعدل تاريخ أُمة، فرحمه الله وحشره مع أوليائه الطاهرين.

 

5. مسلم بن عوسجة

أبو جحل، مسلم بن عوسجة بن سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة الأسدي السعدي، هكذا أورد نسبه السماوي في إبصار العين[103].

 

إن مسلم بن عوسجة صحابي ممن رأى النبي صلى الله عليه وآله، نص على ذلك الشيخ شمس الدين في أنصار الحسين[104]، والشيخ علي النمازي الشاهرودي في مستدركات علم رجال الحديث[105]، والسيد محسن الأمين في أعيان الشيعة[106].

 

وكان رجلاً شريفاً عابداً متنسكاً شجاعاً، له ذكر في المغازي والفتوح الإسلامية[107]، وهو مع ذلك شيخ كبير السن وشخصية أسدية كبرى، ومن أبرز رجالات الكوفة[108].

 

قال الزركلي: «مسلم بن عوسجة الأسدي من أبطال العرب في صدر الإسلام، شهد يوم أذربيجان وغيره من أيام الفتوح، وكان مع الحسين بن علي في قصده الكوفة، فقاتل وهو يناضل عنه»[109].

 

أقول: ولم تذكره مصادر الجمهور، وإنما ذكره صاحب الإصابة، وأُسد الغابة مسلم أبو عوسج يروي حديثاً عن النبي صلى الله عليه وآله بالمسح على الخفين، ولم ينصوا على أنه استُشهد مع الحسين عليه السلام، فلا نعلم أنه هو المقصود أم غيره[110].

 

عدّه الشيخ الطوسي من أصحاب الحسين عليه السلام[111]، وكان من أصحاب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، وأحد الذين كاتبوا الحسين عليه السلامبالقدوم إلى العراق[112]، ولما بعث الحسين عليه السلام مسلم إلى الكوفة كان ابن عوسجة من المستقبلين له والداعين إلى بيعة الحسين على يديه[113].

 

ويذكر أن معقلاً جاسوس ابن زياد «أتى مسلم بن عوسجة الأسدي، من بني سعد بن ثعلبة في المسجد الأعظم وهو يصلي، وسمع الناس يقولون: إن هذا يبايع للحسين، فجاء فجلس حتى فرغ من صلاته، ثم قال: يا عبد الله، إني امرؤ من أهل الشام، مولىً لذي كلاع، أنعم الله عليّ بحبّ أهل هذا البيت، وحبّ مَن أحبهم، فهذه ثلاثة آلاف درهم أردت بها لقاء رجل منهم بلغني أنه قدم الكوفة يبايع لابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله، وكنت أُريد لقاءه، فلم أجد أحداً يدلني عليه، ولا يُعرف مكانه، فإني لجالس آنفاً في المسجد إذ سمعت نفراً من المسلمين يقولون: هذا رجل له علم بأهل هذا البيت، وإني أتيتك لتقبض هذا المال وتُدخلني على صاحبك فأبايعه، وإن شئت أخذت بيعتي له قبل لقائه، فقال: أحمد الله على لقائك إياي، فقد سرّني ذلك لتنال ما تحب، ولينصر الله بهذا الأمر من قبل أن ينمى مخافة هذا الطاغية وسطوته، فأخذ بيعته قبل أن يبرح، وأخذ عليه المواثيق المغلظة ليناصحنّ وليكتمنّ، فأعطاه من ذلك ما رضي به، ثم قال له: اختلف إليّ أياماً في منزلي، فأنا طالب لك الأذن على صاحبك، فأخذ يختلف مع الناس، فطلب له الإذن..»[114].

 

وهكذا بدأ معقل يدخل على مسلم وينقل أخباره إلى ابن مرجانة، فلما انكشف الأمر واعتُقل هاني ـ كما مرّ في ترجمته ـ انتفض مسلم بن عقيل، وقسّم أصحابه إلى أربع رايات، حيث «عقد لعبيد الله بن عمر بن عزيز الكندي على ربع كندة وربيعة، وقال: سر أمامي على الخيل، وعقد لمسلم بن عوسجة الأسدي على ربع مذحج وأسد، وقال: انزل في الرجال، وعقد لأبي ثمامة الصائدي على تميم وهمدان، وعقد للعباس بن جعدة الجدلي على ربع المدنية..»[115].

 

ثم لما انفض الناس عن مسلم وأجهضت حركته واستُشهد، اختبأ مسلم بن عوسجة إلى أن وصل الحسين عليه السلام إلى كربلاء، فالتحق به مع حبيب بن مظاهر الأسدي، كما تقدم.

 

ابن عوسجة في ليلة عاشوراء

وقف الحسين عليه السلام ليلة العاشر من محرم ينادي أصحابه وأهل بيته: «هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، ثم تفرقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله، فإن القوم إنما يطلبوني، ولو قد أصابوني لهو عن طلب غيري..»[116].

 

فشقت هذه الكلمة على القوم، واختنقوا حتى كادت أنفسهم تزهق من أبدانهم، ثم انفجر بركان الولاء بكلمات خلّدتها السنون وخلّدتهم معها، رموزاً للتضحية والفداء والإباء والولاء، واشرأبّ ابن عوسجة كأنه الأسد الهزبر، قائماً قائلاً: «أنحن نخلّي عنك ولما نعذر إلى الله في أداء حقك، أما والله، لا أُفارقك حتى أكسر في صدورهم رمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبتت قائمه في يدي، ولا أُفارقك ولو لم يكن معي سلاح أُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك..»[117].

 

أول صريع بعد الحملة الأُولى

كان عمرو بن الحجاج ينادي بأصحابه بعد الحملة الأُولى ـ بعدما صُرِعَ خمسون شهيداً من أصحاب الحسين عليه السلام ـ الزموا طاعتكم وجماعتكم، ولا ترتابوا في قتل مَن مرق من الدين، وخالف الإمام[118]. فناداه الحسين عليه السلام: «يا عمر بن الحجاج، أعليّ تحرِّض الناس؟ أنحن مرقنا وأنتم ثبتم عليه؟! أما والله، لتعلمنَّ لو قد قُبِضَت أرواحكم ومتّم على أعمالكم أيّنا مرق من الدين، ومَن هو أوْلى بصليّ النار» فحمل عمرو بن الحجاج على الحسين من نحو الفرات على ميسرة الحسين فتطاعنوا واقتتلوا ساعة[119]، وكان على ميسرة الحسين زهير بن القين ومعه مسلم بن عوسجة، فكان مسلم يقاتل قتال الأبطال وهو يرتجز ويقول:

إن تسـألوا عنّي فإنّي ذو لـبد من فرع قوم في ذرى بني أسد

فمن تعامى حائد عن الرشد وكـافر بـدين جبّار صمـد[120]

 

وعَلَتْ الغبرة فما انجلت إلّا ومسلم صريع، حيث شدَّ عليه مسلم بن عبد الله الضبابي وعبد الله بن خشكارة فصرعاه، فمشى إليه الحسين عليه السلام ومعه حبيب فقال له الحسين عليه السلام: «رحمك الله يا مسلم فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا. ودنا منه حبيب بن مظاهر، فقال له: عزَّ عليّ مصرعك يا مسلم، أبشر بالجنة. فقال مسلم بضعيف صوته: بشَّرك الله بخير. فقال له حبيب: لولا علمي أني في أثرك لأحببت أن توصيني بكل ما أهمّك[121]. فقال مسلم: أوصيك بهذا ـ وأشار إلى الحسين ـ أن تموت دونه. فقال حبيب: أفعل وربِّ الكعبة[122].

 

ولمّا صُرِعَ مسلم صاحت جارية له يا سيّداه يا بن عوسجتاه، فنادى أصحاب ابن سعد مستبشرين قتلنا مسلم بن عوسجة فقال لهم شبث بن ربعي: ثكلتكم أُمّهاتكم أما إنّكم تقتلون أنفسكم بأيديكم، وتذلّون أنفسكم لغيركم، أتفرحون بقتل مسلم بن عوسجة!! لرُبَّ موقف له في المسلمين كريم، لقد رأيُته يوم آذربيجان قتل ستة من المشركين قبل أن تلتئم خيول المسلمين[123].

 

6. يحيى بن هاني بن عروة

الشهيد بن الشهيد، أبو داود يحيى بن هاني بن عروة المرادي المذحجي. نص الشيخ علي النمازي الشاهرودي ـ في مستدركات علم الحديث ـ على أنّه من الشهداء، حيث ذكره تحت التسلسل 16285، وقال: «يحيى بن هاني بن عروة المرادي من شهداء الطف، كما ذكره العلّامة المامقاني»[124].

 

وذكره المحلّاتي في فرسان الهيجاء[125]، وذكره ابن الأثير في أُسد الغابة[126]، وذكره ابن حجر في الإصابة، إلّا أنّه قال: تابعي صغير أرسل شيئاً فذكره ابن شاهين في الصحابة..[127]. وذكره التستري فقال: ثمّ من الغريب! أنّ أُسد الغابة عدّه في أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله..[128].

 

أقول: وما هو وجه الغرابة في أن يكون يحيى من الصحابة؛ إذ إننا سمعنا في ترجمة والده ـ المتقدمة ـ أنّه بلغ الثامنة والتسعين يوم شهادته[129]، في عام 60 هـ، وعليه تكون ولادته حوالي 38 قبل الهجرة؛ فيكون عمره يوم وفاة النبي صلى الله عليه وآله 48 سنة تقريباً، فما الضير في أن يكون له ولد يتراوح عمره بين 1ـ30؟ على أنّنا لا يوجد لدينا تاريخ يضبط ولادة يحيى، ثم إنّ كنية هاني أبو يحيى؛ ممّا يدل على أنّ يحيى أبنه الأكبر، وعليه فنحن لا نرى أيّ وجه للغرابة التي ذكرها التستري. على أية حال فإنّ يحيى كوالده عين من عيون الكوفة ومن أبرز شخصياتها.

 

قال ابن حجر في ترجمة يحيى في الإصابة: «قال أبو حاتم الرازي: ثقةٌ صالحٌ، من سادات أهل الكوفة، وذكره ابن حبان في ثقات أتباع التابعين، وقال يحيى بن بكير عن شعبة: كان سيّد أهل الكوفة في زمانه، وثقه النسائي وغيره، وحديثه في السنن الثلاثة»[130].

 

وفي هامش الفوائد الرجالية: «لما قُتِلَ هاني مع مسلم بن عقيل فرَّ ابنه يحيى واختفى عند قومه خوفاً من ابن زياد لعنه الله، فلّما سمع بنزول الحسين عليه السلام بكربلاء جاء وانظمّ إليه ولزمه إلى أن شبَّ القتال يوم الطف، فتقدّم وقتل من القوم رجالاً كثيرة، ثم نال شرف الشهادة»[131].

 

ويبدو أنه استُشهد في الحملة الأُولى؛ لأنّه لم تُذكَر له مبارزة فردية، ولم يُذكَر له رجز سوى ما ذكره بعض المعاصرين، ولم نعثر عليه في أُمهات المصادر والمراجع[132].

 

الكاتب: الشيخ عبد الرزاق النداوي

مجلة الإصلاح الحسيني – العدد السابع

مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية

________________________________________

[50] اُنظر: ابن الأثير، عز الدين علي بن أبي الكرم، أُسد الغابة في معرفة الصحابة: ج1، ص132.

[51] اُنظر: العسقلاني، أحمد بن علي بن حجر، الإصابة في تمييز الصحابة: ج1، ص270.

[52] اُنظر: الطوسي، محمد بن الحسن، رجال الطوسي: ص21.

[53] شمس الدين، محمد مهدي، أنصار الحسين عليه السلام: ص83.

[54] اُنظر: المحلاتي، ذبيح الله، فرسان الهيجاء في تراجم أصحاب سيد الشهداء: ج1، ص59.

[55] اُنظر: المقرّم، عبد الرزاق، مقتل الحسين عليه السلام: ص305. إلّا أن السيد الأمين قال: «ولو كان شهد بدراً وحنيناً لما أغفل ذلك أصحاب كتب الصحابة». اُنظر: الأمين، محسن، أعيان الشيعة: ج3، ص500.

[56] اُنظر: السماوي، محمد، إبصار العين في أنصار الحسين عليه السلام: ص74.

[57] الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ص225.

[58] اُنظر: شمس الدين، محمد مهدي، أنصار الحسين عليه السلام: ص83.

[59] اُنظر: الأمين، محسن، أعيان الشيعة: ج4، ص553.

[60] الحلي، الحسن بن علي بن داود، كتاب الرجال: ص70.

[61] اُنظر: الأمين، محسن، أعيان الشيعة: ج4، ص553.

[62] المصدر السابق: ج4، ص554.

[63] بالتاء المثناة قبل الياء وبعدها.

[64] اُنظر: العسقلاني، أحمد بن علي بن حجر، الإصابة في تمييز الصحابة: ج2، ص142.

[65] فهو يوم توفّي النبي صلى الله عليه وآله له من العمر خمس عشرة سنة تقريباً.

[66] اُنظر: السماوي، محمد بن طاهر، إبصار العين في أنصار الحسين عليه السلام: ص75.

[67] الخوئي، أبو القاسم، معجم رجال الحديث: ج5، ص201.

[68] اُنظر: المقرّم، عبد الرزاق، مقتل الحسين عليه السلام: ص270.

[69] الطوسي، محمد بن الحسن، اختيار معرفة الرجال المعروف بـرجال الكشي: ج1، ص293.

[70] اُنظر: المصدر السابق: ص63.

[71] الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج4، ص264.

[72] اُنظر: المحلاتي، ذبيح الله، فرسان الهيجاء في تر

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة