إن من بين جميع خطب الإمام أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) التي رسمت مسار عاشوراء، هناك عبارة تميز العمق الاستراتيجي واستقلال الهوية ووضوح الموقف السياسي والعقائدي ألا وهي عبارة "مثلي لا يبايع مثل يزيد".
هذه الجملة الموجزة لا تُظهر فقط سبب رفض الإمام الحسين (ع) بيعة يزيد، بل تُعتبر أيضًا "بيانًا حضاريًا إيمانيا" ووثيقةً تاريخيةً في الدفاع عن حقوق الإنسان وحريته وكرامته ضد الهيمنة والانحراف.
فهم المكانة التاريخية لعبارة "مثلي لايبايع مثل يزيد"
أطلق الإمام الحسين (عليه السلام) هذه الجملة ردًا على ممثل يزيد، الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، في المدينة المنورة، حيث كانت الحكومة الأموية تسعى إلى ترسيخ مكانتها الهشة من خلال الحصول على البيعة الفورية من شخصيات بارزة. وفي بداية الطريق، ومن منطلق الوعي والإيمان والفهم العميق لطبيعة السلطة الأموية، رسم الإمام الحسين (ع) هذا الخط الفاصل: "مثلي لا يبايع مثل يزيد".
المهم أن هذه الجملة لم تكن رفضًا شخصيًا، بل كانت قانونًا عابرًا للشخصيات والتاريخ، وهو حدٌّ رُسم بين خطابين ونوعين من البشر: خطاب الحق وخطاب الباطل، وخطاب الهداية وخطاب الانحراف.
التحليل البلاغي والدلالي للجملة
كان بإمكان سيد الشهداء (عليه السلام) أن يقول: "لا أبايعُ يزيد"، لكنه اختار صيغةً دقيقةً ومُثيرةً للتفكير: "مثلي"... "مثل يزيد"...
هذا النوع من اختيار الكلمات في كلام الإمام الحسين (ع) العظيم له ثلاث نقاط رئيسية:
أولًا:
إن هذا الكلام قابل للتعميم على كل العصور، فقد أزال الإمام الحسين (ع) الموضوع من الجانب الشخصي. "أنا الحسين" لا يتحدث فقط كابن الإمام علي (عليه السلام) والسيدة الزهراء (عليها السلام)، بل أيضًا كممثل لكل من يعرف الحقيقة والتقوى والمعرفة والعدل والاستقامة. وهذه الجملة تعني أنه "لا يجوز لكل شخص واع وحر ومؤمن أن يبايع شخصًا هو رمز للفساد والظلم".
ثانيًا:
يوجد هناك تناقض جوهري، لا سياسي. فالاختلاف بين الإمام الحسين (ع) ويزيد ليس مجرد اختلاف في التوجه السياسي أو تحليل الحكم. وأن عبارة "مثلي" و"مثل يزيد" تعني أننا على طرفين متعارضين تمامًا في المبادئ والأخلاق والمنهج والشخصية والأهداف، أحدهما حجة الله، والآخر يمثل الطاغوت، أحدهما نور والآخر ظلام.
ثالثًا:
ترفض هذه العبارة أي تبرير أو تسوية. كما أنها تُلغي أي إمكانية للتفاوض أو المساومة أو المرونة. ويُعلن الإمام الحسين (ع) منذ البداية أنه لا سبيل للوسطية، وأن هذه المواجهة هي المواجهة المطلقة بين الحق والباطل.
يزيد: فرد أم نظام؟
كان يزيد، أكثر من مجرد حاكم فاسد، رمزًا للانحراف الهيكلي في الأمة الإسلامية. عُرف بأنه رمز للانحراف، ليس لخطأ شخصي، بل لترسيخه للدعارة في الخلافة. وكما ورد في التاريخ، عُرف يزيد بشرب الخمر والغناء والصيد واللعب بالقرود وإقامة الحفلات. وحتى هناك أناس مثل عبيد الله بن زياد اعتبروه "فاسقًا" ورفضوا ارتكاب بعض الجرائم باسمه.
كما ذكر عبد الله بن الزبير أن يزيد كان شخصًا "استبدل القرآن بالغناء، البكاء من خشية الله بالغناء، والصيام بالخمر".
ومن الواضح أن بيعة مثل هذا الشخص تعني إضفاء طابع رسمي على خلافة لا شرعية لها دينيًا ولا أخلاقيًا ولا حتى عرفيًا.
هذه الجملة ميثاق صمود لكل الأجيال
إن عبارة "مثلي لايبايع مثل يزيد" ليس مجرد شعارٍ لانطلاقة نهضة عاشوراء، بل هي الحدّ الفاصل لبناء هوية مجتمع المؤمنين على مرّ العصور. فالمجتمع الذي يعتبر نفسه حسينيًا لا يستطيع المساومة مع الأنظمة اليزيدية، حتى وإن نقش اسم الدين على جباهها.
هذه الجملة تُحدّد خارطة الطريق لمحاربة أيّ سلطة فاسدة ومتمردة تسعى إلى التزيّن بالرموز الدينية. لقد وقف الإمام الحسين (عليه السلام) في وجه هذه اللعبة الخطيرة، ورسم الطريق إلى الأبد ليعلم الجميع أن الحق لا يُجيز الباطل، حتى لو سكتت الأغلبية.
ومن المهم أيضًا أن خطوته لم تكن قرارًا متسرعًا أو عاطفيًا. تُظهر هذه الجملة أن الإمام الحسين (ع) سلك هذا الطريق ببصيرة ثاقبة، وتحليل عميق، ومنظور تاريخي طويل. وكان يعلم (ع) أن يزيد كان يسعى إلى الشرعية الدينية، ويسعى إلى توقيع الحسين، حفيد النبي (ص)، لتبرير حكمه الفاسد من منظور ديني، وقد رفض الإمام (ع) هذا التوقيع رفضًا قاطعًا بهذه الجملة.
عندما تصنع هذه الجملة التاريخ
إن عبارة "مثلي لا يبايع مثل يزيد" لم يكن مجرد رفض للبيعة، بل كان بداية مسار عالمي للدفاع عن الحق. وبهذه الجملة، علّمنا الإمام الحسين (عليه السلام) أن الحق لا يُضحى به من أجل المصلحة، وأن الدين لا ينبغي أن يُستخدم لعبة في السياسة القذرة، وأن للحرية خطًا أحمر لا يمكن التفاوض عليه مع أي قوة.
لا تزال هذه الجملة حية حتى اليوم، في ظل سعي الصهيونية العالمية إلى الهيمنة على إيران الإسلامية بقوتها الفاسدة، وأن "مثلي لا يبايع مثل يزيد" ردٌّ واضحٌ على جريمة هؤلاء المجرمين يجب أن يُقال على ألسنتنا.