إن اعتماد أبي عبد الله الحسين (ع) في المسار التاريخي والروحي لانتفاضة عاشوراء على آيات القرآن الكريم يدل على أعمق ارتباط فكري وعقائدي بمصدر الوحي. وفي كل مرحلة من مراحل حركته، أوضح الإمام (ع) بوضوح فلسفة وأهداف ورسالة نهضته باستخدام آيات القرآن الكريم.
قام الدكتور "حسين فرج اللهي"، الأستاذ الجامعي والخبير القرآني، بتحليل وشرح كل من هذه المراجع إلى جانب نص الآية في مذكرة لتسليط الضوء على النهج العقلاني والديني لسيد الشهداء (ع) تجاه الظلم.
النقاء المطلق لأهل البيت (ع)؛ رفض شرعية يزيد
"إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا"
(سورة الأحزاب، الآية 33)
عندما حاول ممثل يزيد في المدينة المنورة الحصول على بيعة الإمام الحسين (عليه السلام)، ردّ الإمام بهذه الآية التي تُبيّن أن أهل بيته طاهرون من كل دنس ورجس، ظاهرهم وباطنهم.
لهذه الآية دلالة قاطعة على عصمة أهل البيت (عليهم السلام) وطهارتهم، وتُظهر أن الإمام الحسين (ع) اعتبر قبول البيعة لحكومة فاسدة مغتصبة مخالفًا لمنصبه ورسالته. كان هذا الردّ دينيًا وسياسيًا، طعنًا في شرعية يزيد، واتخذ موقفًا واضحًا ضدّ الظلم.
التوكل المطلق على الله، مصدر القوة والتوفيق
"وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ"
(سورة هود، آيه 88 )
قرأ الإمام الحسين (عليه السلام) هذه الآية في وصيته، قبل توجهه نحو كربلاء، مؤكدًا أن جميع توفيقاته ونجاحاته كانت رهنًا بإرادة الله ومشيئته، معلنًا توكله المطلق عليه.
إن هذا الموقف دليل على التسليم التام لإرادة الله، وتأكيد على أنه لا قوة إلا الله تضمن طريق الحق. وهذه الثقة، بالإضافة إلى بعدها الروحي، كان لها جانب عملي حافظ على صمود الإم الحسين (ع) وعزيمته في مواجهة مصاعب الطريق ومخاطره.
الهجرة نجاة من الظلم؛ مثال النبي موسى (عليه السلام)
"فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ"
(سورة القصص، الآية 21)
عندما غادر سيد الشهداء (عليه السلام) المدينة المنورة إلى مكة، قرأ هذه الآية التي استعاذ فيها النبي موسى (عليه السلام) بالله من ظلم فرعون. وتُبين هذه الآية بوضوح مشروعية وضرورة هجرة الإمام (ع) تجنبا من بيعة يزيد الظالم، وبدء مرحلة جديدة من الجهاد. وهكذا وضع الإمام (ع) حركته في إطار سنة الأنبياء، والسعي إلى السلام وتجنب الظلم.
الرضا بالقدر المحتوم، ورفض الاعتماد على المعجزات أو القوى الخارقة
"كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ؛ وَ يَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَ الْإِكْرَامِ"
(سورة الرحمن، الآيتان 26-27)
"كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ"
(سورة الأنبياء، الآية 35)
أظهر الإمام الحسين (ع) بقراءة هذه الآيات أمام عرض المساعدة من قوى غيبية، أن الموت والقدر إلهيان، وأنه لا ينبغي الاعتماد على القوى الخارقة. وهذا الموقف مظهر من مظاهر العقلانية، والثقة بالله، والقبول بالقضاء والقدر، مما يدل بوضوح على واقعية الإمام (ع) ويمنع الخيال والمغالاة.
أمل في الهداية والصراط المستقيم
"إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ"
(سورة القصص، الآية 22)
ولما دخل الإمام الحسين (ع) مكة، أعلن بقراءة هذه الآية أمله في الهداية الإلهية والتمسك بالصراط المستقيم. وهذا التأكيد على صراطٍ متينٍ قائمٍ على التوحيد، يضمن قوة القلب وثبات الصراط المستقيم في المحن والشدائد.
نقد حكومة بني أمية؛ كشف عن النفاق وضعف الإيمان
"إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ"
(سورة النحل، الآية 105)
"وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ"
(سورة البقرة، الآية 11)
قام الإمام الحسين (ع) في حواره مع ابن عباس، بالتحليل والكشف عن الحالة الروحية والأخلاقية لحكام بني أمية مستخدمًا هذه الآيات. وتشير هذه الآيات إلى النفاق والنفاق وضعف الإيمان بالحكام، الذين، على الرغم من مظهرهم الديني، هم في الواقع سبب الفساد والظلم. وكان تحليل الإمام (ع) أساسًا قويًا لرفض الحكومة الظالمة والفاسقة.
فصل تام بين الإمام والعدو في المسؤولية
"فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ؛ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ"
(سورة الزلزال، الآيتان 7-8)
قرأ الإمام الحسين (ع) هذه الآية في لقائه بممثل يزيد في مكة ليؤكد أن كل إنسان مسؤول عن أفعاله، وأن هناك فرقًا واضحًا بين الحق والباطل. وهذا القول دليل على استقلالية الإمام (ع) الفكرية والعملية، حيث تُحسب أعمال كل فئة على حدة.
قبول الشهادة بروح التوحيد والاستسلام لأمر الله
"الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: "إنا لله وإنا إليه راجعون"
(سورة البقرة، الآية 156)
أُعلن نبأ استشهاد مسلم بن عقيل مع قراءة هذه الآية. وقد أظهر الإمام الحسين (ع) بوضوح أنه ينظر إلى كل مصيبة على أنها اختبار وقضاء إلهي، وأنه يستسلم ويصبر عليها. وهذا الموقف يُجسّد القوة الروحية والأخلاقية للإمام (ع).
مذمة نقض أهل الكوفة للعهد
"إِنَّ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ"
(سورة البقرة، الآية 27)
ذم الإمام الحسين (ع) بتلاوة هذه الآية، غدر الكوفيين وخيانتهم، وحذّر من أن هؤلاء سيُلحقون بهم الضرر في نهاية المطاف. ويُبيّن هذا الموقف بوضوح الأبعاد الأخلاقية والاجتماعية لنقض العهد، ويدعو الجمهور إلى الوفاء به.
التكريم بالوفاء الكامل في العهد الإلهي
"مِنْهُمْ مَنْ قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا"
(سورة الأحزاب، الآية 23)
كان يقرأ الإمام الحسين (عليه السلام) هذه الآية في استشهاد الموفون بعهدهم من أصحابه، مشددًا على أهمية الالتزام بالعهد الإلهي. ويُمجّد هذا الدعاء الثبات والاستقامة والوفاء للحق حتى الممات.
نقد القيادة الأموية وإعلان سقوطها المعنوي
"وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ"
(سورة القصص، الآية 41)
ردا على تهديدات ابن زياد، شبّه الإمام الحسين (عليه السلام) القيادة الأموية بقادة يدعون الناس إلى النار، ولن يُنصروا يوم القيامة. ويكشف هذا التحليل عن فساد وانحراف الخلافة الأموية من منظور ديني قاسٍ.
وصف الحالة الروحية والأخلاقية لجيش العدو
"اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ"
(سورة المجادلة، الآية 19)
أشار الإمام الحسين (ع) إلى هذه الآية لتوضيح حالة الحيرة وانعدام الهداية الروحية في جيش يزيد. وهذا الوضع رمزٌ للضعف الجوهري لقوة الظالم، ويُفسَّر على أنه علامةٌ على هزيمة الباطل الحتمية.
يُظهر التدقيق الدقيق والمُفصّل في الاستشهادات القرآنية للإمام الحسين (عليه السلام) أن انتفاضة عاشوراء حركةٌ قائمةٌ على مبادئ دينية وعقائدية راسخة. وفقد نسّق الإمام (ع)، ليس فقط كقائد سياسي واجتماعي، بل كحامل ومُفسّر للرسالة القرآنية، جميع مراحل حركته مع منطق الإسلام وتعاليمه المُنزّلة.
تُعدّ هذه الآيات منارةً رسمت مفاهيم كالعدالة، التوكل، الاستقامة، مطالبة الحق والوفاء بالعهد الإلهي، في إطارٍ واضحٍ ومعقولٍ للتاريخ والمستقبل.