برز البطل الهاشمي الأبي جعفر بن عقيل بن أبي طالب لعتاة بني أمية الذين تكالبوا يوم عاشوراء لقتل سبط المصطفى وسيد شباب أهل الجنة أبي عبد الله الحسين -عليه السلام-– فكان يقاتلهم وهو يرتجز قائلاً:
أنا الغلام الأبطحي الطالبي
من معشرٍ في هاشمٍ وغالب
ونحن حقاً سادة الذوائب
هذا حسين أطيب الأطائب
من عترة البرّ النبيّ العاقب
وبعد إستشهاد جعفر بن عقيل برز أخوه السيد المجاهد موسى بن عقيل فقاتل جند البغي الأموي وهو يقول:
إليكم معشر الكفار ضرباً
يشيب لوقعه رأس الرضيع
ونحمي معشر المختار جمعاً
بكفِّ فتى لمولاه مطيع
بسم الله الرحمن الرحيم الحمدلله ذي الجلال والإكرام، وأشرف الصّلاة على خير الأنام، محمّدٍ المصطفى وآله الهداة الكرام. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تحية طيبة -أيها الأخوة والأخوات- والسلام عليكم. خلصنا، فيما مضي، إلى أنّ الأراجيز الشّعرية الإسلامية هي نداءاتٌ تحمل القيم والمبادئ والمفاهيم العليا، وهي في الوقت ذاته رسائل وعظٍ وتنبيهٍ وإرشادٍ وتذكيرٍ للمقابل ولو كان عدوّاً مستعدّاً للمحاربة، وهي إلى ذلك -أيها الإخوة الأفاضل – لم تقتصر على أن تكون أصداءً كقعقعة السيوف، بل هي أيضاً دعوات خيرٍ وإصلاح، ولكنّها ليست دعواتٍ منطقةً عن ضعف أو انكسارٍ أو تخاذلٍ واستسلام، وإنّما هي دعواتٌ صادقةٌ محبةٌ للناس تريد إنقاذهم، وفي الوقت ذاته تعبّر عن الشموخ والعزّة والبسالة والحنكة.
نعم مستمعينا الكرام، بينما الأراجيز العدوانية لم تكن إلّا عواءً جاهلياً، وصرخاتٍ انتقامية، وتشفّياتٍ بغيضة، وتهارجاتٍ ونزعاتٍ وتملّقاتٍ شيطانية.. يكفينا ما نقل عن رجلٍ من أصحاب عبيد الله بن زيادِ ابن أبيه أنّه كان يرتجز ويقول:
اليوم أشفي بالسّنان قلبي
أكشف عنّي إحنتي وكربي!
والإحنة هي الحقد، كما أنّ الكرب الذي أراده هذا الحاقد هو المشقّة التي أثقلت قلبه المريض بالضغائن على أهل بيت رسول الله -صلّى الله عليه وآله-! وذاك الحصين بن نمير السّكونيّ، الذي كان أحد من رمى الإمام الحسين-عليه السلام- في لحظاته الأخيرة وهو طريحٌ على الأرض، أنشأ أرجوزته تلك عندما برز إلى قتال الآخذين بثأر الحسين -عليه السلام- في معركة الخازر:
يا قادة الكوفة أهل المنكر
وشيعة المختار وابن الأشتر
هل فيكم قرنٌ كريم العنصر؟!
(وإلى آخر أرجوزته التهكمية)
وكانت له سابقة سوءٍ يوم خرج لمحاربة حبيب بن مظاهر الأسديّ يرتجز
أمامه:
دونك ضرب السيف يا حبيب..
فكان من جواب حبيب أو أخيه عليّ بن مظاهر رضوان الله عليهما حين برز:
أقسمت لو كنّا لكم أعدادا
أو شطركم لكنتم الأنكادا
يا شرّ قومٍ حسباً وزادا
لا حفظ الله لكم أولادا
أي: لو كنّا ذوي عددٍ كعددكم أو شطره، لرأيتم كيف يسوء حالكم، وأيّ شدةٍ تعانونها، يا شرّ قومٍ فعلةً وعدّة لسفر معصية عظمي، أو: يا شرّ زادٍ تزوّدتم لآخرتكم !
نعم مستمعينا الكرام، وذاك أسيد بن مالك الحضرميّ، كان أحد من انتدب ولبّي، حين نادى عمر بن سعدٍ في أصحابه: من ينتدب للحسين فيؤطئ الخيل ظهره؟ فانتدب منهم عشرة، ذكرهم التاريخ بأسمائهم وأنّهم أولاد زنا، وكان أحدهم أسيد بن مالك، وجاء هؤلاء العشرة المجرمون أولاً بخيولهم فداسوا بحوافرها البدن المقدّس لسيد شباب أهل الجنّة حتّى رضّوا ظهره وصدره، ثمّ جاؤوا ثانياً إلى عبيد الله بن زياد يفتخرون ويطلبون جائزتهم على جريمتهم تلك! وقد ارتجزه أسيد بن مالك بهذه الأرجوزة:
نحن رضضنا الصّدر بعد الظّهر
بكلّ يعبوبٍ شديد الأسر
حتّى عصينا الله ربّ الأمر
بصنعنا مع الحسين الطّهر
هكذا أنطقه الله تعالى ليقرّ أنّه جنى جنايةً عظمى مع إمام الحقّ وليّ الله تعالي! فسألهم ابن زياد: من أنتم؟ قالوا: نحن الذين وطئنا بخيولنا ظهر الحسين حتّى طحنّا حناجر صدره. فأمر لهم بجائزةٍ يسيرة، أو حقيرة. وقد وفّق الله عزّ وجلّ المختار الثقفيّ أن ظفر بهؤلاء العشرة المجرمين، فشدّ أيديهم وأرجلهم بسكك الحديد، ثمّ اوطأ الخيل ظهورهم حتّى هلكوا والتحقوا بأسيادهم في قعر الجحيم!
وذاك بشرُ بن مالك المذحجيّ ورد على عبيد الله بن زياد وبيده رأس
الحسين سلام الله عليه يطالبه بالجائزة، منشداً له هذه الأرجوزة الخبيثة:
إملأ ركابي فضّةً أو ذهبا
فقد قتلت السيد المحجّبا
قتلت أزكى الناس أمّاً وأبا
وخيرهم إذ ينسبون النّسبا
طعنته بالرمح حتّى انقلبا
ضربته بالسيف ضرباً عجبا!
هكذا أمرّ دون إرادته، وأين؟ عند أعتى عدوٍّ من أعداء الحسين، عبيد الله ابن مرجانة. وقيل: إنّ الأبيات لسنان بن أنس، أحد المظنونين بقتل الإمام الحسين صلوات الله عليه، وقد حذّره عمر بن سعد قائلاً له: أنت مجنون؟! لو سمعك ابن زيادٍ لقتلك! وقيل: الأرجوزة لبشر دخل بها مع الخوليّ بن يزيد الأصبحيّ على عبيد الله بن زياد، أو هي للخولّي– كما لفظ هكذا.
وقد أقبل على الطاغية ابن زياد بالرأس المقدّس لأبي عبدالله الحسين ريحانة المصطفى إلى قصر الإمارة بالكوفة، فوضع الرأس الشريف بين يديه وهو يقرأ هذه الأرجوزة التي ختمها بقوله مقرّاً وما شعر ماذا يقول:
قتلت خير الناس أمّاً وأبا
فساء قوله هذا ابن زياد أمام جمع السامعين وأحرجه، فقال له: إذا علمت أنّه كذلك، فلم قتلته؟! والله لانلت منّي شيئاً! وقد ذكر اليافعيّ في(مرآة الجنان) أنّ ابن زيادٍ غضب على ذلك القائل الذي حمل الرأس الشريف إليه لما كان منه من مدح الإمام الحسين وأهل بيته، فقتله! أمّا مروان بن الحكم الأمويّ، لعين رسول الله وطريده، وصاحب الفتن في وقعة الجمل وعند دفن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، والملحُّ على والي المدينة بأخذ البيعة بالقوّة من الإمام الحسين-عليه السلام-أو أن يقتله! هذا اللئيم الخبيث، الحاقد على النبيّ وآل النبيّ، ما أن سمع بمقتل سبط رسول الله صلى الله عليه وآله حتّى امتلأ قلبه المريض فرحاً وسروراً، فإذا رأى رؤوس الشهداء جعل يهزّ أعطافه، وينكت العصا في وجه ريحانة المصطفي، ويقول أرجوزته اللئيمة المتشفّية:
يا حبّذا بردك في اليدين
ولونك الأحمر في الخدّين
كأنّه بات بعسجدين
شفيت نفسي من دم الحسين
أخذدت ثأري وقضيت ديني!
هي تلك حمية الجاهلية الأولى التي ما غادرت يوماً نفوس الجاهليين!
إخوتنا مستمعي إذاعة طهران صوت الجمهورية الاسلامية في ايران، وفي مقابل هذه الروح الجاهلية التي تتجلى في أراجيز عساكر البغي الأموي، تتجلى في أراجيز أنصار الحسين عليه وعليهم السلام روح نصرة دين الله الخالصة وروح حفظ العترة النبوية الطاهرة، لأنها تمثل الإمتداد الصادق للنهج المحمدي النقي، كما لاحظنا في أراجيز جعفر وموسى ولدي عقيل ابن أبي طالب التي إفتتحنا بها هذا اللقاء وهو الرابع عشر من برنامج هدير الملاحم.
والى لقاء آخر بمشيئة الله نستودعكم الله بكل خير والسلام عليكم. الى اللقاء.
بكل خير والسلام عليكم.