قال أسوة التائبين السعداء الحر بن يزيد الرياحي مرتجزا وهو يجاهد أعداء الله ورسوله في ملحمة عاشوراء:
اني أنا الحر ونجل الحر
ولست بالجبان عند الكر
لكنني الوقاف يوم الكر
وقال المجاهد العلوي الثابت الجنان زهير بن القين وهو يخاطب الامام الحق الحسين -عليه السلام- قبل ان يتوجه لاخر جولة من جهاده لعساكر
البغي والغدر الاموي:
فدتك نفسي هاديا مهديا
فاليوم ألقى جدك النبيا
وحسنا والمرتضى عليا
وذا الجناحين الفتى الكميا
وأسد الله الشهيد الحيا
وقال ذو البصيرة الولائية الثاقبة نافع بن هلال الجملي في ارجوزته التي خلدتها ملحمة الطف الحماسية:
أنا الغلام اليمني الجملي
ديني على دين حسين وعلي
أن اقتل اليوم فهذا أملي
فذاك رأيي وألاقي عملي
أضربكم حتى ألاقي أجلي
ويختم الله بخير عملي
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ذي الجلال والاكرام وأزكى الصلاة والسلام على أشرف الخلق والانام، محمد المصطفى وعلى اله الكرام.
أخوتنا الافاضل اخواتنا الفاضلات... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لقد أصبح الشعر قبل الاسلام مائدة ضرورية من موائد حياة الناس، فيه تسلية النفوس، وبلوغ الأماني، وفيه الاعلام الأدبي والاجتماعي معا. وقد بلغ الشعر مبلغا من الاهمية والضرورة أن أصبح غاية في نفسه بعد أن كان وسيلة، فلابد أن يكون كل أحد ناظما للشعر أو منشدا أو مستمعا حافظا له على أقل الفروض، ويكون بالضرورة مطلعا على ما قيل فيه وفي أغراضه. وجاء الاسلام الحنيف أيها الأخوة الاعزة فثبت الغايات الشريفة في حياة الناس، ثم جعل المواهب وسائل سليمة على طريق الاهداف الدينية، ومن تلك المواهب نظم الشعر، اذ هو أسلوب للبوح بالمشاعر الطيبة والأفكار الصالحة والعقائد الالهية، يعبر من خلاله عن موقف ما، ليعلم ذلك، ولينفذ الى قلوب الآخرين واذهانهم. بل ولعل من أسهل بحور الشعر العربي الذي ينساب مع العواطف المتأججة ويتناغم معها هو الرجز، وقد كان له صداه ودوره في ساحة كربلاء، وكان من أوائل من ابتدأه يومها الحر بن يزيد الرياحي -رضوان الله عليه-.
أعزائي الكرام، جاء الحر الرياحي -رحمه الله- بألف فارس لايريد ان يدخل الحسين الكوفة، بذلك أمر من قبل والي الكوفة، وكان الحر يظن ان الامر سينتهي بلا فتنة ولاقتال، لكنه حين رأى عزم عمر بن سعد على منازلة الحسين عليه السلام واصحابه، انحاز الى معسكر الحسين وأصحابه تائبا نادما، مصرا على أن يكفر عن خطيئته، فالتفت الى جيش اهل الكوفة قائلا لهم: يا أهل الكوفة لأمكم الهبل والعبر، إذ دعوتموه، حتى إذا اتاكم أسلمتموه، وزعمتم أنكم قاتلوا أنفسكم دونه، ثم عدوتم عليه لتقتلوه! حتى كان له من الكلام ما أغضبهم، فحمل عليه الرجالة يرمونه بالنبال، فأقبل حتى وقف أمام الحسين تاركا معسكر عمر بن سعد وهو يرتجز قائلا:
أني أنا الحر ونجل الحر
أشجع من ذي لبد هزبر
ولست بالجبان عند الكر
لكنني الوقاف عند الفر
فعرّف بنفسه أولا، وأبدى شجاعته ثانيا، ونفى عن نفسه الجبن ثالثا، فهو الثابت عند فرار الآخرين من ساحة القتال …وبذلك يدلي بموقفه انه إنما انحاز إلى معسكر الحسين لكي يكر على معسكر أعداء الحسين، لا ليهرب من المعركة.
وصدق الحر أيها الإخوة الاعزة فلقد كر على معسكر القتلة لوحده يقاتلهم حتى عقروا فرسه، فخاطبهم بالرجز المختصر:
إن تعقروا مهري فإني الحر
كالليث في الهيجا إذا كر
هكذا يبدي إصراره على مواصلة القتال راجلا يجابه الفرسان وقد طوقوه، لكنه الليث الغاضب الذي لم يهمّه أن يقتل، وإنما همّه أن ينتصر لإمام زمانه وأن يستشهد عزيزا أبيا لايسلّم نفسه ذليلا للاعداء ولايرهب كثرتهم.. فكانت أبياته الرجزية الاخيرة قوله:
آليت لاأقتل حتى أقتلا
ولن اصاب اليوم ألا مقبلا
أضربهم بالسيف ضربا معضلا
لا ناكلا فيهم ولا مهللا
اي اضربهم ولا أجبن أمامهم ولا أنكص وسط كثرتهم. وهكذا قاتل حتى استشهد -رضوان الله عليه-.
لقد كان لاصحاب الحسين -عليه السلام- أيها الاخوة الاحبة، حملة كبرى في بدء نهار عاشوراء، صرع فيها أكثرهم، فصاروا يبرزون وحدانا أو مجاميع صغيرة …حتى خرج الحر الرياحي، فكان زهير بن القين يحمي ظهره، متى شد أحدهما واستلحم شد الاخر فأعانه واستنقذه.. إلى أن استشهد الحر -رضوان الله عليه-، فعاد زهير يستعد لجولة أخرى ولكن بمفرده… فلما أراد أن يدخل ساحة المعركة وقف أمام الحسين -عليه السلام- وقد وضع يده على منكب الحسين عليه السلام وأخذ يخاطبه بهذه الارجوزة الولائية الوداعية:
فدتك نفسي هاديا مهديا
فاليوم القى جدك النبيا
وحسنا والمرتضى عليا
وذا الجناحين الفتى الكميا
وأسد الله الشهيد الحيا
وهذه الابيات تفصح عن بهجة زهير بن القين، إذ يرى نفسه تفدي إمامها الهادي، ثم ترحل إلى الاحبة الاطياب: محمد و علي و الحسن، و جعفر الطيار، وحمزة أسد ألله واسد رسوله، ليكون لقاء في نعيم ….
حتى إذا خرج زهير في تلك المعنوية العالية، وذلك الأمل الايماني، خاطب الاعداء معرفا بنفسه وهدفه الايماني، مرتجزا يقول:
أنا زهير وأنا ابن القين
وفي يميني مرهف الحدين
أذودكم بالسيف عن حسين
إن حسينا أحد السبطين
ابن علي الطاهر الجدين
من عترة البر التقي الزين
فقاتل حتى استشهد بين يدي الحسين -عليه السلام-، فدعا له دعوته المباركة: "لايبعدنك الله يا زهير"، وزاره الامام المهدي -عليه السلام- زيارته المباركة: "السلام على زهير بن القين البجلي".
ويتوافد أصحاب الامام الحسين صلوات الله عليه على ساحة الشرف والشهادة، في قلوبهم تراتيل الولاء، وعلى السنتهم اراجيز الفداء… حتى يتقدم نافع بن هلال الجملي بضمير حر، ونفس كريمة وقلب موال محب، فقتل اعداء الله واعداء رسوله وال رسوله، كيف يا ترى؟ أخذ نافع يرمي بنبال كتب على أفواقها اسمه، فأرسلها وارسل معها أرجوزته يتغنى بها:
أرمي بها معلمة افواقها
مسمومة تجري بها اخفاقها
ليملأن أرضها رشاقها
والنفس لاينفعها إشفاقها
فقتل اثني عشر رجلا من اصحاب عمر بن سعد، سوى من جرح….
حتى فنيت نباله، عندها جرد سيفه يضرب به أعداءه وهو يكر عليهم
ويرتجز قائلا:
أنا الهزبر الجملي
أنا على دين علي
وفي رواية أخرى أن نافع بن هلال ضرب يده على مقبض سيفه فاستله، وجعل يرتجز ويقول:
أنا الغلام اليمني الجملي
ديني على دين حسين وعلي
إن أقتل اليوم فهذا أملي
فذاك رأيي وألاقي عملي
اضربكم حتى الاقي اجلي
ويختم الله بخير عمل
هكذا كان اعتقاد نافع الجملي، عليه قاتل، وعليه قتل شهيدا، عاش على
بصيرة، واستشهد مطمئنا بالهدى والحق بين يدي إمام زمانه،حتى استقبل
الموت مأنوسا به إذ هو خاتمة خير أعماله -رضوان الله عليه-.
أخوة الولاء، أما أهم القيم التي خلدها الحر الرياحي وزهير بن القين ونافع بن هلال في أراجيزهم الملحمية يوم عاشوراء فنلخصها بما يلي:
أولا: التاكيد على ان الموالي للحق هو الذي يسعى للتخلق باخلاق ائمته عليهم السلام كما نلاحظ ذلك في رجز الحر الرياحي.
ثانيا: التنبيه الى ان نصرة ائمة العترة عليهم السلام هي نصرة لله ولجدهم المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم والشهادة في هذا السبيل تعني الالتحاق بركب سادات الشهداء ومرافقتهم كما يشير لذلك زهير بن القين في رجزه الاول.
ثالثا: ان الدين الحق إنما يوخذ من ائمة الحق -عليهم السلام- وبذلك يلقى المؤمن ربه وقد ختم الله عمله بحسن العاقبة كما يتجلى ذلك في الرجز الاخير لنافع بن هلال رضوان الله عليهم أجمعين.
وبهذا ننهي أعزائنا، مستمعي اذاعة طهران، الحلقة التاسعة عشر من برنامج هدير الملاحم تقبل الله اعمالكم الى اللقاء