نتابع حديثنا عن الادعية المباركة، ومنها دعاء (الجوشن الكبير)، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدثك الآن عن احد مقاطعه الذي ورد فيه: (يا قاهر الاعداء، يا رافع السماء، يا أنيس الاصفياء، ...)، هذه العبارات امتداد لسابقتها من العبارات المتجانسة في صياغتها ودلالتها، انها تتحدث عن صفات الله تعالي من حيث علاقتها بالانماط المتنوعة من العباد مثل: الضعفاء،الغرباء، الاولياء، الاصفياء، الاتقياء، بيد ان الملاحظ بان صفة واحدة جاءت في سياق العشر صفات التي تنتظم كل مقاطع الدعاء، جاءت واحدة منفردة في دلالتها ومتفاوتة عن مثيلاتها الا وهي عبارة (يا رافع السماء).
تري ما هو السر الممكن استخلاصه من هذه العبارة المستقلة في دلالتها اي: العبارة التي تتحدث عن رفع السماء، بينما تتحدث العبارات التسع الاخري عن الضعفاء، والغرباء، والاولياء؟
في تصورنا، ان مقطع الدعاء مع انه يتحدث عن عطاءات الله تعالي لمختلف عباده: الاغنياء والفقراء والضعفاء والاولياء، الا ان مجيء عبارة (يا رافع السماء) جاءت بعد عبارة (يا قاهر الاعداء) وقبيل عبارة (يا أنيس الاصفياء) وهما عبارتان تتقابلان اي:الاعداء مقابل الاصفياء، بمعني ان الاصفياء هم: الصفوة البشرية مقابل الاعداء الذين هم اراذل البشرية، لذلك فان العبارة التي تتوسطها وهي (يا رافع السماء) جاءت متجانسة مع مفهوم الرفعة لأعلي مظهر مادي من الوجود وهي السماء مقابل الانحطاط والخذلان للاعداء، بالأضافة الي تعقيب ذلك بعبارة (يا أنيس الاصفياء) كي تتقابل مع الاعداء الذين يقهرهم الله تعالي، اي العدو المقهور مقابل الصفي المنصور والمأنوس بالله تعالي.
والان نتابع سائر المظاهر لعظمته تعالي، ومنها عبارة: (يا حبيب الاتقياء)، فماذا نستخلص منها؟
لقد جاءت هذه العبارة بعد عبارة (يا أنيس الاصفياء)، حيث قلنا: ان الله تعالي هو الانيس للصفوة البشرية لانها ببساطة لا تعرف سوي الله تعالي، لذلك لا تأنس ألابه، وهوتعالي بدوره (أنيس) لهم، يزودهم بعطاءاته التي لا يتذوقها الامن اوتي صفاءالاصفياء: كما هو واضح.
والمهم بعد ذلك: تأتي الطبقة التالية للاصفياء الا وهي طبقة الاتقياء، ومن البين ان الاتقياء هم من يتقي الله تعالي اي: يخاف الله تعالي فيتقي غضبه ويقلع او يتجنب المعصية، ويطيع الله تعالي ويلتزم بمبادئ الطاعة من وجوب وندب ولذلك خلع مقطع الدعاء احد مظاهر العظمة لله تعالي وهو (حبيب) فقال (يا حبيب الاتقياء) بينما خلع صفة (أنيس) علي الاصفياء، وهذا يقتادنا الي التساؤل عن الفارق بين عبارة (يا أنيس الاصفياء) وعبارة (يا حبيب الاتقياء).
واضح، ان الصفوة البشرية لا تعرف سوي الله تعالي في وجودها، ولذلك لا تأنس الابه لانها لا تملك سواه تعالي، بينما الاتقياء هم الذين يمارسون الطاعة ويجتنبون المعصية، وبذلك: يصبحون موضع محبة الله تعالي اياهم لانه تعالي يثمن ويقدر المتقين، فيصبح حبيباً لهم، ويصبحون أحباء له تعالي. اذن (التقي) يحب الله تعالي ويحبه تعالي، بينما (الصفي) يصفو لله تعالي ويأنس به والله يصبح انيساً له:
اذن امكننا ان نتبين - ولو عابراً - جانباً من النكات الكامنة وراء عبارتي: (يا أنيس الاصفياء) و (يا حبيب الاتقياء) سائلين الله تعالي ان يجعلنا ممن يتقيه وممن يصفو بمحبته لله تعالي، وان يوفقنا الي ممارسة الطاعة، والتصاعد بها الي النحو المطلوب.
*******