نواصل حديثنا عن الأدعية المباركة، ومنها دعاء (الجوشن الكبير)، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدثك الآن عن احد مقاطعه الجديدة، وهو المقطع البادئ بما يأتي: (يا من أنعم بطوله، يا من اكرم بجوده، يا من جاد بلطفه، يا من تعززّ بقدرته، ...).
ونقف اولاً عند عبارة (يا من أنعم بطوله)، فماذا نستلهم؟
بالنسبة الي كلمة (أنعم)، تعني: تفضّل، وهنّأ، وأرغد، بحيث جعل هذا الشخص او الجماعة في نعمة ورفاهية واما (الطول)فمعناه: العطاء والفضل ونحوهما.
وحينئذ تكون العبارة المركبّة ما مؤداه: ان الله تعالي تفضّل بعطائه هنا، قد يتساءل قارئ الدعاء قائلاً: ان الله تعالي عند ما يتفضل علينا بعطائه، حينئذ فما هو الفارق بين هذه العبارة وبين ما يليها وهي: (يا من أكرم بجوده)؟
الاجابة عن السؤال المتقدم تقتادنا الي تكرار الحديث عن بلاغة النص الشرعي وانطائه علي نكات دلالية من الدقة بمكان، فكما ان عطاءه تعالي متنوع، وذو درجات، حينئذ فان العبارات تتنوع بدورها، من هنا فان الفارق بين عبارة (يا من أنعم بطوله)وعبارة (يا من اكرم بجوده) تظل من الدقة بمكان، كيف ذلك؟
العبارتان - من جانب - مشتركتان في الدلالة العامة، وهي عطاء الله تعالي، ولكنهما تفترقان من جانب آخر، الفارق هو: ان الإنعام بالشيء والاكرام به من جانب، ثم: (الطول) و (الجود) من جانب آخر هو: ان الانعام هو تحقيق للنعمة التي تصل من الله تعالي للعبد، بينما (الاكرام) هي تكريمة واكسابه تقديراً، وهذا كالفارق بين من ينعم عليك بالمال مثلاً، وبين من يحترمك ويقدرك ويمنحك موقعاً كريماً واما من حيث الفارق بين عبارة (الطول) وعبارة (الجود)، فان الفارق هو: ان (الطول) يعني:الفضل، بين (الجود) يعني: المنح، ولذلك يمكننا في ضوء الفارقية بين العبارتين بنحو عام ان نقول: معني (يامن انعم بطوله) هو: ان الله تعالي جعل عبده منعّما من خلال ايصال الفضل اليه في شتي الميادين، بينما عبارة (اكرم بجوده) تعني: تكريم عبده بذلك، فيكون الفارق حينئذ هو: ايصال النعمة مشفوعة بتكريم العبد واكسابه المنزلة المحمودة.
بعد ذلك نواجه عبارة (يا من جاد بلطفه). فماذا نستلهم منها؟
هذه العبارة هي امتداد لما سبق من العبارتين اللتين تحدثنا عنهما الآن، اي: عبارة (انعم بلطفه)، تشارك عبارتي: (انعم بطوله) و(اكرم بجوده) في الدلالة العامة لما يتفضل به الله تعالي لعباده من العطاءات، كل ما في الامر ان نمط العطاء ودرجته تتفاوت بحسب تنوع ذلك، من هنا يمكننا ان نذهب الي انّ عبارة (جاد بلطفه)، تتناول نمطا من العطاء المجسد لما هو: رقيق ودقيق وانيق من العطاءات لان اللطف هو: الرفق، والرقة ونحوهما، فانت مثلاًً حينما يستعطفك الفقير مثلاً، انما ترفق به وترّق له لما تشاهده من فقره وحاجته، وهذا يختلف عن تعاونك مثلاً مع شخص في البيع او الشراء، حيث يتطلب التعاون شعوراً موضعياً، فاذا نقلنا هذه الظاهرة الي تعامله تعالي مع عباده، حينئذ فان اللطف من الله تعالي لهذا العبد او ذاك يعني انه يرفق به حيث يشاهده في امسّ الحاجة الي المساعدة.
اذن المساعدة المقرونة بالرفق بعباده، تختلف عن التكريم لشخصياتهم من حيث الموقع، وتختلف عن التفضل منه تعالي علي عباده بهذا العطاء او ذاك: سواء أكان العطاء روحياً او مادياً او اجتماعياً او فردياً.
اذن امكننا ان نلاحظ - من جانب - اشتراك العبارات المتقدمة الثلاث في صلتها بعطاء الله تعالي مطلقا، ثم افتراق كلّ منها في نمط العطاء حيث يتنوع بين ما هو نعمة ونضارة في العيش مثلاً، وبين ما هو التقدير الاجتماعي مثلاً، وبين ما هو الانقاذ من البؤس و...الي آخره مثلاً.
*******