نتابع حديثنا عن الأدعية المباركة، ومنها دعاء (الجوشن الكبير)، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدثك الآن عن احد مقاطعه الذي ينتهي بالعبارة الآتية: (يا من تصرّف في الخلائق قدرته).
ان هذه العبارة تتويج لعبارات سابقة حدثناك عنها في لقاءات متقدمة، وهي: مقاطع تتحدث عن خلق الله تعالي واعادة خلقه، والرجوع اليه، والاحسان او اللطف لخلقه، ثم اتقانه تعالي لكل شيء من خلقه، ثم العبارة التي ختم لها هذا الحديث عن الخلق، حيث اوضح بان قدرته تعالي هي التي تتصرف في خلقه.
والسؤال الآن هو: ماذا نستلهم من العبارة المتقدمة الذاهبة الي انه تعالي قد جعل قدرته غير المحدودة هي المتصرفة في خلقه؟
ان قدرته تعالي لا حدود لها، كما ان رحمته تعالي لا حدود لها، بيد انّ ما نستهدف الاشارة اليه الآن هو: ما هي الأسرار الكامنة وراء العبارة التي تتحدث عن قدرته تعالي من حيث التصرف في خلقه.
انه تعالي - في عبارات سابقة - المح الي خلقه من حيث الابداع، والإماتة، والاحياء، واللطف والاتقان في ذلك جميعاً، وحينئذ ختم ذلك بالاشارة الي ان قدرته تعالي هي المتصرفة في خلقه. فماذا تعني هذه؟
الجواب: في تصورنا ان الاشارة الي (قدرته) تعالي لها أسرار جمة، منها: ان الانسان في محدودية عقله لا يمكنه ان يدرك مفهومات العبادة، والرجوع الي الله تعالي، واللطف الكامن وراء ذلك، والاتقان الذي يطبع ما خلقه تعالي، كل ذلك تشير اليه عبارة(التصرف) في خلق الله تعالي من خلال قدرته، بمعني انه تعالي يتصرف بحكمة بحيث لا ينبغي ان يسأل عما يفعل تعالي، ولكن الخلق مسؤولون عن أفعالهم.
اذن التصرف وفق قدرته يعني: ان الحكمة هي وراء ذلك، وهو ما ينبغي ان نذعن له جميعاً.
بعد ذلك نواجه مقطعاً جديداً، يبدأ بهذا النحو: (يا حبيب من لا حبيب له، يا طبيب من لا طبيب له، يا مجيب من لا مجيب له، ...).
نعتقد هنا ان قارئ الدعاء الذي اقتنع بان الله تعالي يتصرف حيال عبده بحكمه، عندئذ يجيء المقطع الجديد ليوضّح لنا ان ذلك الذي نجهله هو: ان الله تعالي لا تنفصل رحمته عن قدرته، ولا قدرته عن رحمته، انه تعالي يتصرف حيال عباده بما هو حب، بما هو علاج لهم، بما هو اشباع لرغباتهم.
وها هي العبارات التي لاحظناها الآن تتكفل ببيان ما ذكرناه، وهي عبارة: (يا حبيب من لا حبيب له) وعبارة (يا طبيب من لا طبيب له) وعبارة (يا مجيب من لا مجيب له).
ان (الحبّ) هو الدلالة الوحيدة لمعني الانسان: كما هو واضح. من هنا بدأ المقطع بعبارة (يا حبيب من لا حبيب له) اي: ان الله تعالي هو المصدر الذي نتجه اليه في اشباع حاجاتنا، وفي مقدمتها. الحاجة الي الحبّ، وبما ان الانسان قاصر في تحقيق الاشباعات له ولسواه، لذلك فان الله تعالي هو الجدير لتحقيق اشباعنا، وهذا ما تعبّر عنه فقرة (من لا حبيب له) اي: ان الانسان الذي هو قاصر في تحقيق ما يتطلع اليه، والآخرون قاصرون ايضاً، حينئذ فان الله تعالي هو المصدر لهؤلاء الذين يغلفهم القصور، ولا حبيب لهم الّا الله تعالي.
*******