البث المباشر

احلى الكلام -۳۷

الأحد 20 يناير 2019 - 13:10 بتوقيت طهران

الحلقة 37

بعث إليّ الأخ أيمن النقيب من بغداد سائلاً عن قائل هذا البيت:

لو لم ينله من العقاب سوى

بعدك عنه لكان يكفيه

قلت للأخ العزيز أيمن والزوار الكرام جميعاً: هذا البيت العذب السّهل الممتنع لطبيب الخلفاء والملوك اللطيف الّظريف البارع في كلّ فنّ، واللامع في كلّ شأن الذي لذّ الناس شعره، واستطاب الذّوق نثره، أبي الحسن هبةالله بن أبي الغنائم صاعد بن هبة الله المعروف بابن التّلميذ النّصرانيّ الّطبيب الملقّب أمين الدّولة البغداديّ.
وكان حسن السّمت كثير الوقار، له التصانيف المليحة في الّطبّ والأدب، وتوفّي في عاصمة كرامته بغداد في صفر سنة ستّين وخمس مئة عن عمر ناهز المئة، وقد شيّعه جانبا دار الخلافة: الكرخ والرّصافة. وهذا قوله المسئول عنه وما معه قبله:

يا من رماني عن قوس فرقته

بسهم هجر على تلافيه

ارض لمن غاب عنك غيبته

فذاك ذنب عقابه فيه

لو لم ينله من العقاب سوى

بعدك عنه لكان يكفيه

ومن مشهور شعره قوله:

تقسّم قلبي في محبّه معشر

بكلّ فتىً منهم هواي منوط

كأنّ فؤادي مركز وهم له

محيط وأهوائي له خطوط

وقال في ولده سعيد:

حبّي سعيداً جوهر ثابت

وحبّه لي عرض زائل

به جهاتي السّتّ مشغولة

وهو إلى غيري بها ماتل

ومن شعره العذب الزّلال هذان البيتان:

عاتبت إذ لم يزر خيالك والد

نوم بشوقي إليك مسلوب

فزارني منعماً وعاتبني

كما يقال المنام مقلوب

وكان بينه وبين أوحد الزّمان أبي البركات هبة الله بن علي الحكيم المشهور تنافرعلى ما هو جار بين أهل كلّ صنعة.
وكان أوحد الزّمان يهوديّاً أسلم في آخر عمره، وأصابه الجذام فعالج نفسه بتسليط الأفاعي على جسده بعد أن جوّعها، فبالغت في نهشه، فبرئ من الجذام، لكنّه عمي، فقال فيه ابن التّلميذ:

لنا صديق يهوديّ حماقته

إذا تكلّم تبدو فيه من فيه

يتيه والكلب أعلى منه منزلة

كأنّه بعد لم يخرج من التّيه

وكان ابن التّلميذ متواضعاً متودّداً، وأوحد الزّمان أبو البركات متكبّرا، فعمل فيهما البديع الاسطرلابي

أبو الحسن الّطبيب ومقتفيه

أبو البركات في طرفي نقيض

فهذا بالتّواضع في الثّريّا

وهذا بالتكبّر في الحضيض

ووقع إليّ كتاب من صديق قديم من الجزائر هو الأخ الّطاهر المدنّي يسألني به عن قائل هذا البيت:

فما جازه جود ولا صلّ دونه

ولكن يصير الجود حيث يصير

فقلت للأخ الّطاهر ولكم - سلمتم جميعاً -: هذا البيت للشّاعر الحاذق الفائق قديماً وحديثاً أبي علي الحسن بن هانئ المعروف بأبي نواس من قصيدة رائعة من البحر الطويل أنشدها أبا نصر الخصيب بن عبدالحميد صاحب ديوان الخراج بمصر، وهي طويلة بليغة في مدح الخصيب، ومطلعها قوله:

أجارة بيتينا أبوك غيور

وميسور ما يرجى لديك عسير

ومنها:

تقول التي من بيتها خفّ محملي

عزيز علينا أن نراك تسير

أما دون مصر للغنى متطلّب

بلى إنّ أسباب الفنى لكثير

فقلت لها واستعجلتها بوادر

جرت فجرى من جريهنّ غدير

ذريني أكثرّ حاسديك برحلة

إلى بلدة فيها الخصيب أمير

اذا لم تزر أرض الخصيب ركابنا

فأيّ فتىً بعد الخصيب تزور

فما جازه جود ولا حلّ دونه

ولكن يصير الجود حيث يصير

وهذا هو البيت المسئول عنه، وبعده:

فتىّ يشتري حسن الثّناء بماله

ويعلم أنّ الدّائرات تدور

جواد إذا الأيدي قبضن عن الّندى

ومن دون عورات النّساء غيور

وإنّي جدير إن بلغتك للغنى

وأنت لما أمّلت منك جدير

فإن تولني منك الجميل فأهله

وإلاّ فإنّي عاذر وشكور

ولمّا عاد ابو نواس إلى بغداد، قال له الخليفة: وأيّ شيء تقول فينا بعد أن قلت في بعض نوّابنا:

إذا لم تزر أرض الخصيب ركابنا

فأيّ فتىً بعد الخصيب تزور

فما جازه جود ولا حلّ دونه

ولكن يصير الجود حيث يصير

فأطرق، ثمّ رفع رأسه، وأنشد يقول:

إذا نحن أثنينا عليك بصالح

فانت كما نثني وفق الذي نثني

وغن جرت الألفاظ منّا بمدحة

لغيرك إنساناً فأنت الذي نعني

وحسبك هذان البيتان البديعان دليلاً على براعه أبي نواس الفائقة التي حملت أهل زمانه ومن بعدهم على تسميته بالحاذق.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة