نفتتح هذه الحلقة من البرنامج ببعض ما روي عن مصابيح الهدي الإلهي (عليهم السلام) في ثواب التفاعل الوجداني مع مظلوميتهم (سلام الله عليهم).
فقد روي عن مولانا الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: إن الأرض والسماء لتبكي منذ قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) رحمة لنا، وما بكي لنا من الملائكة أكثر، وما رقأت دموع الملائكة منذ قتلنا. وما بكي أحد رحمة لنا ولما لقينا إلا رحمة الله تعالي قبل أن تخرج الدمعة من عينه، فإذا سالت دموعه علي خده فلو أن قطرة من دموعه سقطت في جهنم لأطفأت حرها، وأن الموجع لنا قلبه ليفرح يوم يرانا عند موته فرحة لا تزال تلك الفرحة في قلبه حتي يرد علينا الحوض.
وقال الإمام الرضا (عليه السلام): من تذكر مصابنا وبكي لما ارتكب منا كان معنا في درجتنا يوم القيامة. ومن ذكر بمصابنا فبكي وأبكي لم تبك عينه يوم تبكي العيون. ومن جلس مجلسا يحيي فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب.
الله تبارك وتعالي هو العفو الغفور الرحيم وقد أمر عباده بالعفو وقد بادره أقرب أولياءه لذلك فكانوا أعظم الناس عفواً وصفحاً، ومن نماذج ما جري يوم الجمل.
فعن معاذ بن عبد الله التميمي قال: والله، لقد رأيت أصحاب علي (عليه السلام) وقد وصلوا الي الجمل، وصاح منهم صائح: اعقروه، فعقروه فوقع، فنادي علي (عليه السلام): من طرح السلاح فهو آمن، ومن دخل بيته فهو آمن، فوالله ما رأيت أكرم منه وقال المؤرخ البلاذري: قام علي (عليه السلام) حين ظهر وظفر (علي أهل الجمل) خطيبا فقال: يا أهل البصرة، قد عفوت عنكم، فإياكم والفتنة، فإنكم أول الرعية نكث البيعة وشق عصا الأمة، وفي رواية أخري أنه (عليه السلام) وحين ظهر علي أهل الجمل قال، بعد حمد الله والثناء عليه: أما بعد، فإن الله ذو رحمة واسعة، ومغفرة دائمة، وعفو جم، وعقاب اليم، قضي أن رحمته ومغفرته وعفوه لأهل طاعته من خلقه، وبرحمته اهتدي المهتدون، وقضي أن نقمته وسطواته وعقابه علي أهل معصيته من خلقه، وبعد الهدي والبينات ما ضلّ الضالون. فما ظنكم يا أهل البصرة وقد نكثتم بيعتي وظاهرتم علي عدوي؟
فقام اليه رجل فقال: نظن خيراً، ونراك قد ظفرت وقدرت، فإن عاقبت فقد اجترمنا ذلك، وإن عفوت فالعفو أحب الي الله.
فقال: قد عفوت عنكم، فإياكم والفتنة، فإنكم أول الرعية نكث البيعة وشق عصا هذه الامة.
قال: ثم جلس للناس فبايعوه وقال الإمام زين العابدين (عليه السلام):
دخلت علي مروان بن الحكم فقال: ما رأيت أحداً أكرم غلبة من أبيك ما هو الا أن ولينا يوم الجمل.
فنادي مناديه: لا يقتل مدبر ولا يذفف علي جريح.
وقال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، في صفة علي (عليه السلام): وأما الحلم والصفح فكان أحلم الناس عن ذنب، وأصفحهم عن مسيء. وقد ظهر صحة ما قلناه يوم الجمل، حيث ظفر بمروان بن الحكم - وكان أعدي الناس له، وأشدهم بغضاً - فصفح عنه.
وكان عبد الله بن الزبير يشتمه علي رؤؤس الأشهاد فظفر به يوم الجمل، فأخذه أسيراً، فصفح عنه، وقال: اذهب فلا أرينك، لم يزده علي ذلك. وظفر بسعيد بن العاص بعد وقعة الجمل بمكة - وكان له عدوا - فأعرض عنه، ولم يقل له شيئاً.
وقد علمتم ما كان من عائشة في أمره، فلما ظفر بها أكرمها، وبعث معها إلي المدينة عشرين إمرأة من نساء عبد القيس عممهن بالعمائم وقلدهن بالسيوف، فلما كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يذكر به، وتأففت وقالت: هتك ستري برجاله وجنده الذين وكلهم بي.
فلما وصلت المدينة ألقي النساء عمائمهن، وقلن لها: إنما نحن نسوة. وحاربه أهل البصرة، وضربوا وجهه ووجوه أولاده بالسيوف، وشتموه ولعنوه، فلما ظفر بهم رفع السيف عنهم، ونادي مناديه في أقطار العسكر: ألا لا يتبع مول، ولايجهز علي جريح، ولا يقتل مستأسر، ومن ألقي سلاحه فهو آمن، ومن تحيز الي عسكر الإمام فهو آمن. ولم يأخذ أثقالهم، ولاسبي ذراريهم، ولاغنم شيئاً من أموالهم، ولو شاء أن يفعل كل ذلك لفعل، ولكنه أبي إلا الصفح والعفو، وتقبل سنة رسول الله (صلي الله عليه وآله) يوم فتح مكة، فإنه عفا والأحقاد لم تبرد، والاساءة لم تنس.
ومن وصايا أهل بيت النبوة (عليهم السلام) بالصبر الجميل، قول الإمام علي (عليه السلام): معاشر شيعتي، اصبروا علي عمل لاغني بكم عن ثوابه، واصبروا عن عمل لا صبر لكم علي عقابه، إنا وجدنا الصبر علي طاعة الله أهون من الصبر علي عذاب الله عزوجل. اعلموا أنكم في أجل محدود وأمل ممدود ونفس معدود، ولابد للأجل أن يتناهي وللأمل أن يطوي وللنفس أن يحصي. ثم دمعت عيناه وقرأ: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ، كِرَامًا كَاتِبِينَ، يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ.