نتابع حديثنا عن الادعية المباركة، ومنها أدعية الزهراء (عليها السلام) حيث حدثناك عن احد أدعيتها، ونواصل حديثنا عن ذلك، وهذا ما نلحظه في العبارات الأتية: (والحمد لله علي حجته البالغة علي جميع من خلق ممن اطاعه وممن عصاه، فان رحم فمن منه، وان عاقب فبِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ، وما الله بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ). هذا المقطع من الدعاء يتناول ظاهرة (المهمة العبادية) التي او كلها تعالي للانسان ولسواه من المخلوقات وقد أشار المقطع الي هذه الدلالة الشاملة للمخلوقات جميعاً وليس الانسان وحده بعبارة (جميع من خلق) والمهم الآن هو: ملاحظة المقطع ونكاته. فماذا نستخلص منه؟
الاستخلاص الاول: من مقطع الدعاء هو: ان الله تعالي اوصل الي المخلوقات حجته، اي: المبادئ التي رسمها وأوكل الي العباد: العمل بموجبها، وذلك بممارسة الواجب والمندوب، وترك المحرم والمكروه.
والاستخلاص الثاني هو: ما يترتب علي الالتزام بمبادئه تعالي أو عدم الالتزام، حيث شطر الدعاء الجزاء المترتب علي الالتزام وعدمه الي قسمين العفو أو العقاب، حيث يقول النص: (فان رحم فمن منه، وان عاتب فبما قدمت ايديهم، ...)، هنا يتعين علينا ان نقف عند هاذين الجزاءين: الرحمة والعقاب، حيث ينطويان علي جملة نكات.
من ذلك الرحمة الالهية حيث قدمها الدعاء علي العقاب، وعبر عن ذلك بالمن، ان المن هو كل ما ينعم به علي المخلوق، وهذا يعني ان الله تعالي رحيم قبل كل شيء، وان يمن علي مخلوقاته بنعمة العفو عن ذنوبهم، وهو ما ينبغي لفت النظر اليه ولكن - في الآن ذاته - فان قارئ الدعاء عليه الا يهمل الجزاء الأخر الا وهو: العقاب، صحيح ان الله تعالي رحيم لا حدود لرحمته، وأنه يمن علي عباده، الا انه تعالي في الآن ذاته: له ان يعاقب المذنب، ومع هذين الاحتمالين، فان الوظيفة للمخلوق هي: أن يحيا بين ظاهرتي: الثواب والعقاب أو الرغبة والرهبة أو الامل ومقابله، وهذا ما المحت النصوص الشرعية اليه. بصفة ان الرغبة وحدها قد تدع المخلوق مستهيناً بمهمته العبادية، كما ان اليأس قد تدعه يكف عن مواصلة مهمته، وكلاهما ليسا من الاصابة بشيء.
بعد ذلك نواجه مقطعاً جديداً يبدأ علي هذا النحو: (والحمد لله العلي المكان، والرفيع البنيان، الشديد الاركان، ...). هنا نلحظ بان المقطع الذي نتحدث عنه يتميز بايقاع موحد ينتهي بالفواصل الآتية: المكان، البنيان، الاركان، وعلينا - في هذا السياق - ان نشير اولاً الي ان الايقاع اثره الجمالي في عملية التلقي للنص، ولكن في الآن ذاته فان الايقاع الموحد (وهو فاصلة حرفي الالف والنون) له نكتته الدلالية وليس الجمالية وحدها، وهذا ما يميز النص الشرعي عن سواه. ان النص البشري قد يعتمد الجمال وحده، وقد يعتمد الدلالة وحدها، ومن النادر ان تتحقق المعادلة بينهما، بينما النص الشرعي يوظف الجمالية للدلالة اي: يجعل من الايقاع وسواه مجرد اداة لتعميق الدلالة: كما هو واضح.
والان خارجاً عن جمالية الايقاع نتجه الي الدلالة. فماذا نلاحظ؟
نلاحظ جملة عبارات متتالية تتحدث عن مظاهر عظمته تعالي متمثلة في انه تعالي: العلي المكان، الرفيع البنيان، الشديد الاركان، والسؤال المهم هو: هل هذه الصفات او السمات أو المظاهر: رموز واشارات وأستعارات. ام انها تعبير عن الحقيقة المباشرة طبيعياً، ثمة تعبيرات صورية تنتسب الي الرمز كالنماذج المتقدمة، وثمة تعبيرات مباشرة مثل: الرحيم الرحمان، الواضح البرهان.
اذن نحن الآن امام نمطين من التعبيرات المباشرة وغير المباشرة فكما ان قوله تعالي مثلاً في القرآن الكريم بانه «الْمُهَيْمِنُ» تعبير مباشر، ولكنه في عبارة «اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ» تعبير غير مباشر، وهما في دلالة مشتركة: كما هو واضح (والمهم ان نعطي التعبيرين نكاتهما، مما سنحدثك عن ذلك في لقاءات لاحقة ان شاء الله تعالي.
*******