نتابع حديثنا عن ادعية الزهراء (عليها السلام) ومنها احد ادعيتها التي ورد فيه: (اللهم اني أسألك كلمة الاخلاص، وخشيتك في الرضا والغضب، والقصد في الغني والفقر) ، هذا المقطع من الدعاء يتضمن جملة توسلات، حدثناك عن اولها في لقاء سابق وهو قولها (عليها السلام): (أسألك كلمة الاخلاص) . ما الآن نحدثك عن عبارة: (وخشيتك في الرضا والغضب) ، فماذا نستلهم من العبارة؟
العبارة المذكورة، تجسد من زاوية الصحة النفسية والعبادية ذروة السلوك السوي الموضوعي الذي يتخلي عن (أنا) الشخصية تماماً، ويرشحها لما هو موضوعي صرف، ألا وهو: العمل من اجل الله تعالى فحسب، وهذه العبارة تجسد او تعتبر امتداداً للعبارة السابقة: (أسألك كلمة الاخلاص) ، بصفة ان الاخلاص لله تعالى يعني: الغاء الاخرين من حساب الشخصية، وهذا الالغاء له مصاديق متنوعة يجيء اولها متمثلاً في احدى سمات الشخصية العبادية وهي: (الرضا والغضب) ، لنتحدث عن هذه الظاهرة وجذورها النفسية فنقول:
يعد الغضب والرضا حالتين إنفعاليتين من حيث السلوك أو الاستجابة النفسية حيال المحركات الخارجية. فإذا أساء اليك أحد الاشخاص مثلاً، حينئذ قد تنفعل حيال ذلك ويكون (الغضب) هو: الاستجابة الانفعالية. وقد يحسن اليك أحد الاشخاص، وحينئذ قد تنفعل حيال ذلك، ويكون (الرضا) هو الاستجابة الانفعالية منك. لكن ما نعتزم الاشارة اليه الان هو: ان الرضا والغضب يتم حيناً من اجل (الأنا) كالحالتين السابقتين، ولكن الزهراء (عليها السلام) حينما تتوسل بالله تعالى بان يكون الرضا والغضب من اجل الله تعالى، حينئذ فان المطلوب هو: الغاء (الانا) وجعل الرضا والغضب من اجل الله تعالى؟ كيف ذلك؟
لنتقدم بمثال آخر أو لنعد لنفس المثال المتقدم، فنقول: الغضب والرضا يتعين انصبابهما في سلوك موضوعي هو: خشية الله تعالى اي: حرصك على التفاعل مع الله تعالى في الالتزام بمبادئه، ومنها: ان تغضب وترضى بمقدار ما يتوائم مع المبادئ المذكورة اي: انك تغضب على الشخص المسيء لك، لا لأنه أساء اليك، بل لأنه مارس سلوكاً عدوانياً لا يرضى به الله تعالى، فيكون غضبك من اجل الله تعالى متمثلاً في كون الاساءة عملاً محرماً او مكروهاً مثلاً، وهكذا بالنسبة الى سائر انفعالاتك في ميدان التفاعل مع الأخرين. اذن الخشية في الرضا والغضب هي: تعبير سوي عن الشخصية العبادية بالنحو الذي اوضحناه. اما الآن فنتجه الى المفردة الثالثة في المقطع وهي: (القصد في الغني والفقر) ، فماذا نستلهم من العبارة؟
(القصد) في اللغة هو الاعتدال اي: لا افراط ولا تفريط، وهو حالة نفسية تعبر عن السوية المتمثلة في أن الشخصية لا تسرف في حالة الغني مثلاً، لان الاسراف تعبير عن نقص في الشخصية تحاول من خلاله ان تعوض ما هو الناقص عندها بما هو الزائد أي بما يضاده، وهذا ما انكره الدعاء عندما توسل بالله تعالى بان يجعل قارئ الدعاء معتدلاً لا يسرف في حالة غناه المادي. ولكن الدعاء في نفس الوقت توسل بالله تعالى بان يجعل قارئ الدعاء مقتصداً او معتدلاً في الفقر ايضاً؟ فكيف نتصور ذلك؟
ان الاحساس بالفقر قد يجر الشخصية الى ظاهرة مضادة للاسراف الا وهي البخل، فالبخل صفة مرضية اي: صفة شاذة تعبر عن الحومان حول (الانا) وعن (الحرص) على الشيء الى درجة مقيتة بحيث لا تستثمره البتة بل تبقيه دون الحاجة الى إبقاء ذلك، وهذا ما يستاقها الى التردي في مهاوي السلوك الشاذ المتمثل في (البخل) الكاشف عن انطواء الشخصية على ذاتها وعدم انفتاحها على خارج ذاتها، وهو قمة الشذوذ النفسي والروحي.
ختاماً نسأله تعالى ان يجعلنا ممن يلتزم بمبادئ الله تعالى، وان يوفقنا الى طاعته، والتصاعد بها الى النحو المطلوب.
*******