نتابع حديثنا عن أدعية الزهراء (عليها السلام) ومنها: (رب ارحم عند فراق الاحبة صرعتي، وعند سكون القبر وحدتي، وفي مفازة القيامة غربتي، وبين يديك موقوفاً للحساب فاقتي) ، هذا المقطع من الدعاء يتضمن مفردات اربعاً، ترتبط بمراحل اليوم الآخر وهما لحظة الموت ، البرزخ، الْقِيَامَةِ، الْحِسَابُ، ونظراً لأهمية وطرافة هذه الصياغة للمواقف والاحداث الاربعة، يجدر بنا ان نقف عند كل مفردة بخاصة وان الزهراء (عليها السلام) استخدمت اسلوباً بلاغياً فائقاً عبر صياغتها لمفهومات او دلالات تقترن مع المراحل الاربع. اذن لنتحدث عن هذه الجوانب.
ان اول ما يلفت انتباهنا هو رسم الحالة النفسية للشخص عند مواجهة الموت والقبر والْقِيَامَةِ والْحِسَابُ، حيث رسمت الزهراء (عليها السلام) حالات تبدو وكأن بعضها مترادف في دلالته مع الاخر، والحالات هي: الصرعة ، الوحدة ، الغربة ، الفاقة .
والسوال هو: ما هي النكات الدلالية لهذه الحالات الاربع؟ هذا ما نحاول الاجابة عنه، ونبدأ اولاً مع عبارة: (ارحم عند فراق الاحبة صرعتي) .
السؤال الآن هو: لماذا انتخبت الزهراء (عليها السلام) مصطلح (الصرعة) عند لحظة الموت ؟ ولماذا ذكرت فراق الاحبة في سياق المصطلح المتقدم؟
في تصورنا ان (الصرعة) اما ان تأتي بمعنى (الحالة) اي: معنى العبارة هي: (ارحم حالتي عند فراق الأحبة) ، أو يكون بمعنى: السقوط على الارض. وفي الحالتين ثمة نكات يحسن بنا ان نعرض لها، ولعل (الصرعة) بمعنى (الحالة) هي: الاقرب نكتة بالنسبة الى لحظة (الموت) ، بصفة ان الانسان وهو مرتبط بالاحبة بخاصة وهم اقرب من الآخرين اليه في حالة مشاركتهم فراق الشخصية يظل هذا المعنى متحققاً بوضوح فحالة الشخصية وهي تفارق احبتها لابد وان تنقلها من بيئة آهلة بالاحبة الى بيئة مجهولة او لا اقل موحشة. طبيعياً ان الموت عند فراق الأحبة يواجه برحمته تعالى حيث حضور المعصوم (عليها السلام) وسائر ما يرتبط ببشرى الملائكة له يتدخل في تحديد حالة الميت، وهو امر يتحدد بمقدار تقوى الشخصية، بيد انه في الحالات جميعاً تظل الحالة المفارقة للبيئة الدنيوية المصحوبة بوجود الأحبة مدعاة للوحشة لا اقل في بداية مرحلة الموت .
بعد ذلك نواجه عبارة: (وعند سكون القبر وحدتي) ، طبيعياً: الحالة في المرحلة الثانية وهي: ايداع الشخصية في القبر تقترن بالوحدة اي: انفرادها حيث لا وجود للاحبة في هذا المكان الموحش، وهذا ما يتناسب في رسم الحالة (الوحدة) مع ايداع الشخصية حفرة القبر .
اما المرحلة الثالثة فهي الانبعاث والحضور في عرصة القيامة، هنا نلحظ ان الزهراء (عليها السلام) رسمت الموقف بالقول: (وفي مفازة القيامة غربتي) ، هنا نتساءل: لماذا استخدمت الزهراء (المفازة) في الوصف لمكان الوقوف؟ ثم، لماذا استخدمت مصطلح(غربتي) دون غيرها من الحالات؟ هذان السؤالان يظلان في غاية الأهمية، ولنتحدث عنهما الآن.
لقد رسمت الزهراء (عليها السلام) عرصة القيامة بالمفازة وهي: المكان الذي لا ماء فيه او النبت، ولعل قارئ الدعاء على احاطة بالاحاديث التي تشرح البيئة الاخروية المقترنة بالاهوال، مادياً ومعنوياً مما يجعل التشبيه بالمفازة او الصحراء له مسوغاته الفنية، واذا كان الامر كذلك فماذا نتوقع من الحالات النفسية للشخصية حينئذ؟
الجواب هو: الغربة .
والسؤال لماذا: الغربة مع ان ساحة القيامة ملأى بالبشرية؟
الجواب: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ من الاب والابن والاخ والام و... الخ. اذن ثمة (غربة) بالرغم من وجود الاقارب والاباعد، بصفة ان الشخصية مشغولة بهمومها الشخصية ولا أحد سواها مسؤول عنها، وهذه هي الغربة بعينها.
اذن امكننا ان نتبين جانباً من الاوصاف التي قدمتها الزهراء (عليها السلام) لمراحل الموت ، و القبر ، والْقِيَامَةِ، سائلين الله تعالى ان يرحمنا برحمته التي لاحدود لها، وان يوفقنا الى ممارسة الطاعة والتصاعد بها الى النحو المطلوب.
*******