نواصل حديثنا عن الأدعية المباركة، ومنها دعاء الامام المهديّ (عليه السلام)، وهو الدعاء الجامع لامور الدنيا والآخرة، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، وانتهينا الى مقطع ورد فيه التوسل بالله تعالى ان يتفضّل: (على الاغنياء بالتواضع والسعة، وعلى الفقراء بالصبر والقناعة، ... الخ) .
هذه الشريحة من الدعاء تتضمن التوسل بالله تعالى بان يرعى طبقتين، احداهما مالكة لوسائل الاشباع وهم الاغنياء ، والاخرى على العكس منها وهم الفقراء، والسؤال الآن هو: كيف عالج الدعاء هذه الظاهرة من خلال الدعاء؟ واليك الاجابة.
خلافاً للاتجاهات المادية في بعض نماذجها الذاهب الى التقسيم الطبقي، والانتهاء لاحداها، والدعوة الى محاربة الطبقة الغنية، نجد ان المشرّع الاسلامي يمنح الحق لكليهما، كل طبقة أو فريق يضطلع بوظيفته لا فرق بين غنيّ وفقير، فللأغنياء وظيفتهم، وللفقراء وظيفتهم ايضاً، وقد وردت النصوص الشرعية المشيرة الى انّ في اموال الاغنياء نصيباً للفقراء في جملة موارد، والمهم هو: ان يلتزم الغني بالتوصية الاسلامية، وكذلك الفقير بالنسبة الى تحديد سلوكه العام على نحو ما نبدأ بتوضيح ذلك.
لقد توسّل الامام المهديّ (عليه السلام)، بالله تعالى بان يتفضل على الاغنياء بالتواضع والسعة ، وهذا يعني (من الزاوية النفسية او التربوية) انّ التركيبة النفسية للغني من الممكن ان يطالها الطغيان مثلاً فتتكبّر على الفقير، و هذا ما يفسد عليها الأمر، ولذلك وردت التوصية بتواضع الغني للفقير ولمطلق الناس، حيث ان التكبر كما ورد عن الامام الصادق (عليه السلام) وكما انتبهت المدارس النفسية الى ان المتكبر لا يتكبر الاّ لذلة يجدها في نفسه، اي الاحساس بالنقص فيعوضه بالتعالى او التكبر والزهو الخ، والمهم هو: ان يتواضع الغنيّ لسواه حتى يتحقق التعادل او المساواة وعدم افضلية احدهما على الآخر، وهو قمة السلوك السوّي.
يبقي ان نحدثك عن التوصية الثانية بالنسبة الى الاغنياء ، وهي (السعة) ، ولعل قارئ الدعاء يتساءل عن المقصود من مصطلح(السعة) ، هل يقصد به ان يوسّع الغني على الفقراءبالمال؟ أو يقصد (السعة) ، لدى الغني من حيث استمراريتها حتى يؤدي وظيفته في اشباع الفقير او مجازاته ب السعة للهدف نفسه، او المقصود به السعة في الصدر بحيث يتحمل الغني الحاح الفقراءعليه لاشباع حاجاتهم، ان كلاً من الاحتمالات السابقة يرد في سياق العلاقة بين الغني والفقير. واما بالنسبة الى الفقير: فما هي الوظيفة الملقاة عليه؟
الدعاء توسل بالله تعالى بأن يتفضل على الفقراء بالصبر وبالقناعة ، والسؤال: اذا كانت السعة والتواضع هي الوظيفة للأغنياء: تعديلاً لسلوكهم، فأن الصبر والقناعة بالنسبة الى الفقراء هما: التعديل لسلوكهم. كيف ذلك؟
مما لا ترديد فيه ان الصبر هو وظيفة البشرية جميعاً ايا كان نمطهم، ولكن ثمة سياقات تتطلب صبراً خاصاً كالصبر على من فقد عزيزاً، أو مرض مرضاً عضالاً أو.. الخ، والفقير هنا عبر مشاهدته الاغنياء وهم يتنعمون بأموالهم لابدّ وان يثير الموضوع في أعماقهم توتراً ينجم عن المثير المتقدم، لذلك فان الصبر على شدة الفقر هو العلاج لهم، بصفة ان الجزع مع الفقر يصبح مصيبتين، بينما الصبر مع الفقر يصبح مصيبة واحدة (كما ورد عن المعصوم (عليه السلام): (المصيبة للصابر واحدة وللجازع اثنتان) .
واما الحالة الاخرى فهي (القناعة) ، ولا نحسب ان احداً من الناس لا يدرك بان (القناعة كنز لا ينفد) كما قرر الامام على (عليه السلام)، ولعل التأمل الدقيق في هذا الموضوع يجعل الفقير (من خلال القناعة) غير متميز عن الغنيّ، لان القناعة بشيء ما تعني: الكفاف وهو سدّ الحاجة، والغني ايضاً لا يصنع اكثر من السدّ للحاجة، اذن: الغنيّ والفقير يتماثلون في سدّ الحاجة لديهم، هذا من خلال ما لديه من المال، الفائض، وهذا من خلال ما لديه من المال المحدود.
ختاماً امكننا ان نتبين جانباً من دعاء الامام المهدي (عليه السلام) في توسله بالله تعالى بان يتفضل على الاغنياء والفقراء بما يتلاءم واوضاعهم، كما نسأل الله تعالى ان يوفقنا الى ممارسة الطاعة، والتصاعد بها الى النحو المطلوب.
*******