كان يستسقي به غيث السما
فقضي - روحي فداه - بالظمأ
وبخيل الكفر عدوا حطما
غسّلوه بدم الطعن وما
كفنوه غير بوغاء الثري
فالمعالي بالعزا قائمة
ودموع الانبيا ساجمة
وعليه حسورها لاطمة
ميت تبكي له فاطمة
وأبوها، وعلي ذو العلي
وأمين الله أدمي خده
وجميع الرسل تبكي فقده
وأبوه النوح أمسي ورده
لو رسول الله يحيا بعده
قعد اليوم عليه للعزا
إن الامام الحسين صلوات الله عليه أبكي الانبياء والرسل والاوصياء والاولياء والصالحين، بل أبكي العوالم، كما شهدت بذلك الأخبار والروايات المتفق عليها، والمدونة في أوثق المصادر لدي الخاصٌة والعامٌة وحقٌ للوجود كله أن يبكي الحسين علي تلك المصائب العظمي التي حلٌت به (سلام الله عليه)، بل حقٌ لكل من سمع بها أن يبكي، حتي قبل أن تحل بالحسين، وآل الحسين. فقد بكي آدم وجبرئيل، ومن بعدهما الأنبياء كلهم، والمرسلون جميعهم، والأوصياء وأصحابهم، وكان لبكائهم أكثر من باعث وباعث، ولعلٌ أحد بواعثه اسمه المقدس الشريف، قبل صورته البهية، ومحياه النوراني البهي، وقبل رؤية شخصه الذي يفيض عبادة وتقي وخيراً ورحمةً وعلماً وهدي. فما سمع آدم أبو البشر بأسمه إلا وخشع قلبه وسالت عبرته، وما أخبر رسول الله محمد (صلي الله عليه وآله) بشهادته حتي تملكته الكآبة واعتصر قلبه الشريف وجد وحزن وأسي، فكان له في ذكره مآتم، كلما تكرر عليه خبر كربلاء، أو واقعة عاشوراء!
أخرج الطبراني الشافعي في (المعجم الكبير)، والمدني الشيخاني في (الصراط السوي في مناقب آل النبي)، وابن سعد في (الطبقات الكبري) وغيرهم عن عائشة: ان الحسين دخل علي رسول الله (صلي الله عليه وآله) وهو يوحي اليه، وأخذ ينكب عليه ويلعب علي ظهره، فسأله جبريل: أتحبه يا محمد؟
قال: يا جبريل، ومالي لاأحب أبني؟!
قال: فإن أمتك ستقتله من بعدك.
فمد جبريل (عليه السلام) يده فأتاه بتربة بيضاء وقال له: في هذه الارض يقتل ابنك يا محمد، واسمها الطف.
ثم خرج (صلي الله عليه وآله) إلي اصحابه وفيهم: علي وأبو بكر وعمر وحذيفة وعمار وأبو ذر، وهو يبكي، فقالوا: ما يبكيك يا رسول الله؟!
قال: أخبرني جبريل أن ابني الحسين يقتل بعدي بأرض الطف، وجاءني بهذه التربة، وأخبرني أن فيها مصرعه.
*******
لقد شهد التأريخ الاسلامي استمرار اقامة مجالس العزاء والرثاء للحسين (عليه السلام) بمختلف أشكالها الفردية والاجتماعية في ظل مختلف الأوضاع التي مرّ بها العالم الاسلامي وعلى الرغم من محاربة الطواغيت لها وسعيهم لمحوها بأشدّ الاساليب وهذه ظاهرة فريدة تحمل دلالات مهمة لاحظوا ما يقوله سماحة الشيخ جعفر عساف الاستاذ بالحوزة العلمية من بيروت بهذا الخصوص:
الشيخ جعفر عساف: بسم الله الرحمن الرحيم واشرف الصلاة والسلام على نبينا محمد واله الطيبين الطاهرين
بالنسبة لما ذكرتم حول تاريخ المجالس الحسينية نجد ان المجالس قد كانت قديمة قدم التاريخ ولانريد ان نتوسع في هذا التاريخ، اذا اردنا ان ننظر في الروايات المأثورة عن آل البيت عليهم السلام نجد ان هذا التاريخ لأحياء المجالس يمتد الى ما قبل النبي (صلى الله عليه وآله) حتى الانبياء السابقين الذين كانوا قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانوا قد اهتموا بأحياء هذه المجالس الحسينية او بالاخبار بقتل الحسين صلوات الله عليه ولكن سأقتصر على ماورد عندنا من اخبار رسول الله (صلى الله عليه وآله) واحياء رسول الله لذكر الحسين ومقتل الحسين صلوات الله عليه او ما ورد في خصوص تاريخ اهل البيت صلوات الله عليهم اجمعين من الاهتمام بهذه المجالس الحسينية والمصيبة الحسينية فنجد مثلاً ان النبي (صلى الله عليه وآله) كان قد احيا مجلس الحسين بتعبيراتنا الدارجة اليوم منذ ولادته وهذا كان مستغرباً لدى المسلمين ان الحسين عندما ولد بدلاً من ان يقام له مأتم الفرح والسرور اقيم له مأتم ولهذا يقال لما جيء بالحسين صلوات الله عليه الى رسول الله بعد ولادته اذن في اذنه اليمنى واقام في اليسرى ثم وضعه في حجره وبكى وقال: "تقتله الفئة االباغية لا انالهم الله شفاعتي"، وقال ايضاً: "ليت شعري من يقتلك بعدي"؟
فهذا احياء رسول الله لهذه المصيبة التي كانت ستجري على الحسين قبل وقوعها وقبل حدوثها وايضاً نجد هذا التاريخ عند بقية الائمة صلوات الله عليهم وهذا المنهج كان مستمراً في احياء مجالس الحسين وذكر الحسين فأذن هذا الاحياء لذكر الحسين نستطيع ان نقول انه كان ممتداً على الاقل منذ عصر رسول الله (صلى الله عليه وآله) مروراً بعصر وعصور الائمة والصلحاء والموالين لآل البيت صلوات الله عليهم اجمعين واستحضر هنا ان الامام الصادق صلوات الله عليه حتى انه كان يطلب انشاد الشعر في مجالس الحسين وطبعاً كانت الاحياءات متنوعة ومتعددة يمكن ان نجد هناك ما كان يتم من الاحياء بواسطة انشاد الشعر في الحسين وفي مصيبة الحسين صلوات الله عليه ويمكن ان يكون الاحياء لمجالس الحسين بطريقة الرثاء وبطريقة النعي وكما كان يفعل الائمة صلوات الله عليهم اجمعين، يأمر الناس الائمة بأحياءات مختلفة ومتنوعة لمجالس الحسين بلبس السواد واطعام الطعام وانفاق المال وهكذا نجد ان الروايات حقيقة التي كثرت عن اهل البيت عليهم السلام بأنشاد الشعر في الحسين حتى في العصور التي كانت في عصر متأخر من الحسين صلوات الله عليه ولذلك يقول مثلاً الامام الصادق (عليه السلام): "من قال في الحسين شعراً وبكى وابكى اوجب الله له الجنة وغفر له ذنوبه" وهذا الحث الشديد من آل البيت صلوات الله عليهم اجمعين بهذه الطرق المتنوعة والمختلفة والمستمرة على مدى العصور هي كانت تاريخاً لأحياء مجالس الحسين الى ان تطورت اليوم بهذا الشكل وقد تتطور المجالس بطرق مختلفة عما كانت عليه في العصور السابقة، اليوم الاحياء عبر شاشات، عبر التلفاز، عبر اساليب متنوعة من مسرحيات وما الى ذلك والطرق الفنية والتشكيلية ولا مانع من ذلك لأن كل ذلك يدخل في احياء مجالس الحسين وذكر الحسين صلوات الله عليه وسلام الله عليه.
*******
وبعد رسول الله (صلي الله عليه وآله) ورحيله إلي ربه جل وعلا، لابد أن يكون وصيه علي علم بكل ما قاله رسول الله (صلي الله عليه وآله) من بيانات للوحي وأحكام وسنن، وإخبارات وإنباءات، وواقعة كواقعة عاشوراء لابد أن يكون الوصي علي علم تفصيلي بها، لذا كان أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يرثي ابنه الحسين بعد وفاة رسول الله في المدينة وفي الكوفة، وعلي المنبر في مناسبات عديدة، وبعناوين متعددة، وكان يبكي كثيراً ولده الحسين كما بكاه رسول الله (صلي الله عليه وآله) من قبل.
أخرج أحمد بن حنبل في مسنده عن عبد الله بن نجي، عن ابيه أنه سار مع علي (عليه السلام)، فلما جاؤوا "نينوي" وهو منطلق إلي صفين، نادي علي: إصبر أبا عبد الله، إصبر أبا عبد الله، بشط الفرات. قال الراوي وهو نجي الحضرمي:
قلت: وماذا؟!
قال: دخلت علي رسول الله (صلي الله عليه وآله) ذات يوم وعيناه تفيضان، قلت:
قلت: يا نبي الله، إغضبك أحد؟! ما شأن عينيك تفيضان؟!
قال: بل قام من عندي جبريل قبل فحدثني أن الحسين يقتل بشط الفرات، فقال اي جبريل: هل لك إلي أن أشهدك من تربته؟!
قلت: نعم. فمد يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها، فلم أملك عيني أن فاضتا.
أخرجه كذلك ابن أبي شبيه في (المصنف) وفيه: صبراً أبا عبد الله، صبراً أبا عبد الله - يريد به الحسين ابنه (سلام الله عليهما). كذا اخرجه ابن سعد في (الطبقات الكبري) وفيه قول النبي (صلي الله عليه وآله): ثم قبض جبريل قبضة من تراب فشمني أياها، فلم أملك عيني أن فاضتا.
وأخرجه ايضاً: الحافظ أبو يعلي الموصلي في مسنده، والحافظ الطبراني في معجمه الكبير، والفقيه ابن المغازلي الشافعي في (مناقب علي بن أبي طالب) وورد في عشرات المصادر العاٌمة والخاٌصة.
نعم، تعددت الأخبار وتكاثرت، حتي تواترت، وتوفرت حتي اشتهرت، أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يقيم المآتم - ولو مختصرة - علي ولده الشهيد أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) قبل شهادته بعشرين عاماً، ففي كتاب (وقعة صفين) روي مؤلفه نصر بن مزاحم المنقري بإسناده عن هرثمة بن سليم، قال: غزونا مع علي بن أبي طالب غزوة صفين، فلما نزلنا كربلا صلي بنا صلاة، فلما سلٌم رفع إليه تربتها فشٌمها ثم قال: واها لك أيتها التربة، يحشر منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب.
وفي رواية أخري ينقلها المنقري عن الحسن بن كثير، عن أبيه أن عليا أتي كربلا ء فوقف بها، فقيل: يا أمير المؤمنين، هذه كربلاء!
فقال: ذات كرب وبلاء!
ثم أومأ بيده إلي مكان فقال: ها هنا موضع رحالهم، ومناخ ركابهم: وأومأ (عليه السلام) إلي موضع آخر فقال: هاهنا مهراق دمائهم!
وقريباً منه روي الحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية) وفيه أنه (عليه السلام) أشار إلي مكان هناك، فعلموه بشيء (أي وضعوا فيه علامة) قال الراوي: فقتل فيه الحسين فيما بعد.
كذا روي الخبر هذا الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في (دلائل النبوة) ولكن عن ابن نباته أنه قال:
أتينا مع علي موضع قبر الحسين، فقال: هاهنا مناخ ركابهم، وموضع رحالهم، ومهراق دمائهم، فتية من آل محمد يقتلون بهذه العرصة، تبكي عليهم السماء والارض.
أما في (الارشاد) فقد كتب الشيخ المفيد أنه (عليه السلام) لمٌا نزل بكربلا ء ترقرقت عيناه بالبكاء، ثم قال: هذا - والله - مناخ ركابهم، هذا - والله - مناخ ركابهم، هذا ملقي رحالهم، وها هنا تراق دماؤهم، طوبي لك من تربة عليك تراق دماء الأحبة، وفي ساعاته الاخيرة، وهو (سلام الله عليه) علي فراش الشهادة، التفت إلي ولده الحبيب الحسين فقال له: يا أبا عبد الله، أنت شهيد هذه الامة.
*******