لا مثل يومكم بعرصة كربلا
في سالفات الدهر يوم شجون
يوم أبيّ الضّيم صابر محنة
غضب الإله لوقعها في الدّين
سلبته أطراف الأسنّة مهجة
تفدي بجملة عالم التكوين
فثوي بضاحية الهجير ضريبة
تحت السّيوف لحدّها المسنون
وقفت له الأفلاك حين هويـّه
وتبدّلت حركاتها بسكون
لم ينقطع يوماً من الأيّام - وعلي مدي قرون ممتدّة - مأتم سيّد الشهداء صلوات الله عليه منذ واقعة الطفّ الكبري إلي يومنا هذا، وإلي ما يشاء الله تعالي ويحكم في إعظام شأن أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، فقد استمرّت النياحة ومجالس البكاء والعزاء، ومواكب الحزن وشعائر الولاء، في دور أئمّة الحقّ عليهم السلام ودور أبنائهم العلوييّن، ودور شيعتهم المخلصين، لم تنقطع أبداً، نعم، انحسرت بعض سنوات الإرهاب والضغط الّلذين مارسهما طغاة بني أميّة وبني العبّاس، لكنّها بقيت متوهّجة في قلوب الموالين، ومقامةً بين الأوفياء المضحّين، وتلك كتب التاريخ تذكر الكثير من أخبار هذا الأمر، مقروناً بالإصرار علي زيارة القبر الطاهر للإمام الحسين (عليه السلام) في أقسي الظروف، رغم تهديمه عشرات المرّات، وإيذاء آلاف الزائرين إلي حدّ قطع الأيدي وأخذ الاتاوات، بل وقتل الأنفس المؤمنة. هكذا تواصلاً مع سيرة الأئمة الهداة من آل الرسول صلي الله عليه وعليهم، فاستمرّت الدموع تذرف، والمصاب يذكر، والنّدبة مقامة في محافل أهل الولاء، فيرد النداء من صاحب الأمر حجّة الله المهديّ المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) - وهو في غيبته -: (فعلي الأطائب من أهل بيت محمّد وعليّ صلّي الله عليهما وآلهما فليبك الباكون، وإيّاهم فليندب النادبون، ولمثلهم فلتذرف الدموع، وليصرخ الصارخون، ويضجّ الضاجّون، ويعجّ العاجّون، أين الحسن أين الحسين، أين أبناء الحسين؟؟!)
ومنه صلوات الله عليه وعجّل فرجه تأتي الزيارة العاشورائيّة المباركة. نعم، من ناحيته المقدّسة تقرأ بألسنة القلوب، وهو يخاطب جدّه الحسين (سلام الله عليه): (فلأندبنّك صباحاً ومساءا، ولأبكينّ عليك بدل الدموع دماً، حسرة عليك وتأسّفاً، وتحسّراً علي ما دهاك وتلهّفا، حتي أموت بلوعة المصاب، وغصّة الاكتئاب).
ويمضي حجّة الحقّ مهديّ آل الرسول في زيارته المفجعة لجدّه الحسين مخاطباً: لقد أصبح رسول الله من أجلك موتوراً، وعاد كتاب الله مهجوراً، وغودر الحقّ إذ قهرت مقهوراً، وقام ناعيك عند قبر جدّك الرسول، فنعاك إليه بالدّمع الهطول، قائلاً: يا رسول الله، قتل سبطك وفتاك، واستبيح أهلك وحماك، وسبي بعدك ذراريك، ووقع المحذور بعترك وبنيك.
فنزع الرسول الرداء وعزاه بك الملائكة والأنبياء، وفجعت بك أمّك فاطمة الزهراء، واختلفت جنود الملائكة المقرّبين، تعزّي أباك أمير المؤمنين، وأقيمت عليك المآتم في أعلي عليين، تلطم عليك فيها الحور العين، وتبكيك السماوات وسكانها، والجبال وخزّانها، والسّحاب وأقطارها، والأرض وقيعانها.
*******
عندما نراجع تاريخ مجالس العزاء الحسيني منذ واقعة الطف نلاحظ بوضوح مشاركة او تعاطف بعض من غير المسلمين من الاديان الاخرى بل واقامتهم بأنفسهم لهذه المجالس وبصور مختلفة كما نشاهد في العديد من البلدان، فكيف يمكن تفسير هذه الظاهرة؟ نستمع الاجابة عن هذا السؤال من ضيف اليرنامج في هذه الحلقة من برنامج تاريخ المجالس الحسينية سماحة الشيخ باقر الصادقي الباحث الاسلامي من قم المقدسة:
الشيخ باقر الصادقي: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا وآل بيته الطاهرين.
المتتبع لسيرة ومنهج الامام الحسين وفي نهضة الامام الحسين وما خلف الامام الحسين من امور نجد ان هذه النهضة كانت لها آثاراً حتى على غير المسلمين فنجد ان غاندي الزعيم الهندي هو الذي صرح وقال: "تعلمت من الامام الحسين كيف اكون مظلوماً فأنتصر"، هكذا نلاحظ بعض المسيحيين احبوا الامام الحسين حينما تعرفوا على منهجه وعلى نصرته للمظلوم ووقوفه بوجه الظالم من اجل الارادة والكرامة والحرية المنشودة في الحقيقة احبوا نهج الحسين وتعلقوا به والتاريخ يحدثنا عن مجموعة من النصارى مجرد ما نظروا الى رأس الامام الحسين كما في الحادثة المروية في منتصف الطريق بين الكوفة والشام، نعم ذلك الراهب الذي مجرد ما نظر الى رأس الحسين تعلق به وزاد شغفاً وحباً له حينما رأى النور الذي يسطع من رأس ابي عبد الله الى اعنان السماء فدفع لهم اموالاً وطلب منهم ان يكون الرأس الشريف عنده تلك الليلة، فعلاً طيبه وشاهد ما شاهد من الكرامات لا يسع المجال الى ذكر ماحدث حول الرأس والنتيجة عند الصباح دخل في الدين الاسلامي واعلن الشهادتين وايمانه وهذا كله ببركة الامام الحسين (عليه السلام)، هكذا في الشام ينقل التاريخ لنا ان بعض النصارى حينما عرفوا ان ابن بيت رسول الله قام احدهم واخذ يخاطب يقول: "نحن عندنا في بعض الجزائر حافراً لحمار عيسى بن مريم هذا نحج له كل سنة وانتم تقتلون ابن بنت نبيكم؟"
هذا في الحقيقة كان مدعاة الى عدم الرضا على هذه الحادثة مما أثر ايجابياً على انه يدخل في الدين الاسلامي حينها وفعلاً نال الشهادة لأن يزيد لما سمع امر بقتله لكي لايتكلم وبالتالي يفتضح اذن في الحقيقة مجالس سيد الشهداء، مجالس الامام الحسين يعني انا انقل من شيء سمعته عن اناس في محافظة البصرة نقلوا لي بأن مجالس الامام الحسين يحضرها بعض النصارى وفي هذا العام بالخصوص صادفت عشرة المحرم مع اعياد عيد ميلاد سيدنا المسيح (عليه السلام) ونلاحظ انهم عطلوا الاحتفالات بسبب تزامنها مع ايام عاشوراء وواقعة كربلاء فلن يقيموا هذه الاحتفالات مواساة منهم الى ماجرى على سبط رسول الله وابن فاطمة الزهراء وابن امير المؤمنين، نلاحظ اذن آثار هذه المجالس ليست فقط على المسلمين وانما على النصارى وبعضهم الان يشارك في نفس المواكب في قضية زيارة الحسين وحتى سمعت ان بعض الصابئة غير النصارى كذلك يحضرون في مجالس سيد الشهداء وينهلون منها وهذا ان دل على شيء انما يدل على الجذب الموجود وقوة الجذب عند الامام الحسين وليس ذلك الا لأخلاصه لله سبحانه وتعالى لأن الحسين قدم كل ما يملك لله ومن هنا نجد هذه المحبة في قلوب الاحرار حتى من غير المسلمين الى سيد الشهداء والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
*******
وتتعدّد المآتم عند أهل البيت في صور وهيئات مختلفة، وكلّها تحمل آهات حرّي، وزفرات وحسرات شتي، فما أعظمها كانت مصيبة الحسين علي آله، وعلي نسائه وعياله، وتلك زينب بنت أمير المؤمنين ملأتها كربلاء لوعةً وألماً وحزناً حتي لم تطق الحياة بعد الحسين، فودّعتها بعد أشهر قلائل، وهي التي شاركت أخاها في نهضته، وواسته في مهمّته، وتجرّعت بعده غصص الماسي، حيث دارت عليها رحي الكوارث، فصبرت، وداهمتها الدنيا بالمشاهد الرهيبة، فسلّمت لله ورضيت بقضائه، حتي إذا قتل الجميع، وعاينت أشلاء الضحايا، مجزّرين علي صعيد المنايا، ورأت مصارع الشهداء من عشيرتها وإخوتها وبني عمومتها، قد فرّق السيف بين الرؤوس منهم والأبدان، وحرارة الشمس قد غيّرت منهم الألوان، وبينهم ريحانة المصطفي سيد شباب أهل الجنّة صريعاً علي الرمضاء، أجهشت بالبكاء، ونادت بهذا الدعاء: إلهي تقبّل منّا هذا القربان.
ثمّ انثنت شاكية وجدها إلي جدّها، تقول: يا محمّداه، هذا حسين بالعراء، مرمّل بالدماء، مقطّع الأعضاء، وبناتك سبايا وذريّتك مقتـّله.
وبعد الرحلة المريرة في ركب السّبا إلي الكوفة ثمّ إلي الشام، وعوداً إلي كربلاء ثمّ المدينة، وقفت زينب عند قبر جدّها رسول الله وقد أخذت بعضادتي باب المسجد، ونادت: يا جدّاه، إنّي ناعية إليك أخي الحسين.
وقيل: إنّها أنشأت علي مشارف المدينة تقول:
مدينة جدّنا لا تقبلينا
فبالحسرات والأحزان جينا
خرجنا منك بالأهلين طـّراً
رجعنا لا رجال ولا بنينا
وتعالت النّدب من أفواه بنات الحسين ونسائه وأهله وذويه، فتدخل سكينة بنت الحسين أرض المدينة فتصيح: "يا جدّاه إليك المشتكي"، وتلك الرباب زوجة الحسين لا تجفّ دموعها، ولا تهدأ عن رثاء سيد الشهداء، فتتقول فيه:
إنّ الذي كان نوراً يستضاء به
بكربلاء قتيل غير مدفون
سبط النبيّ جزاك الله صالحة
عنّا، وجنّبت خسران الموازين
من لليتامي، ومن للسائلين، ومن
يغني ويأوي إليه كلّ مسكين؟!
ومن هناك حرائر الرسالة وبنات الوحي قد اعتمل فيهن الأسي والحزن، فكانت لهن مدامع لا تنقطع، وقد حدّثنا عنهنّ الإمام الصادق (عليه السلام) فقال: (فقد طال بكاء النساء، وبكاء الأنبياء، والصدّيقين والشهداء، وملائكة السماء).
وتبقي مصيبة الحسين مبكية كلّ شيء، من قبل ومن بعد، من قبل العرش واللّوح والقلم، ومن قبل الأنبياء والرسل والأوصياء والأولياء، ومن قبل محمّد المصطفي وآله صلوات الله عليه وعليهم، ومن قبل أهل البيت النبويّ وأهل المدينة، قبل أن يولد الحسين (سلام الله عليه) وبعد أن ولد، ومن قبل خروجه من المدينة وبعده، وفي كربلاء وبعد عاشوراء، طالما علت أصوات النحيب والبكاء، وضجّت صرخات الحزن والفجيعة، من جهة النساء والرجال، زفرات متصاعدة من أفئدة حرّي، عقدت مآتم أسيً علي سيّد شباب أهل الجنّة في كلّ مكان وزمان. وهي منعقدة في السماء كما انعقدت في الأرض، وبين الملائكة كما بين الإنس.
روي ابن قولويه في (كامل الزيارات) أنّ الحسين (عليه السلام) حينما قتل يوم عاشوراء، نادي جبرئيل صارخاً: قد قتل ابن محمّد المصطفي، ابن فاطمة الزهراء، ابن عليّ المرتضي، قد قتل الحسين بكربلاء!!
ولم تنحصر إقامة أهل بيت النبوة (عليهم السلام) لمجالس العزاء الحسيني بشكل واحد، بل تنوعت فيروي لنا التأريخ قيام زوجة سيد الوصيين مولاتنا أم البنين (سلام الله عليها) بأقامة مجالس العزاء الحسيني في البقيع وهي تنشد المراثي المفجعة في ذلك لتساهم بذلك في ترويج هذه السنة المحمدية وتخليدها عبر العصور.
*******