لئن اخرتني الدهور، وعاقني عن نصرك المقدور، ولم اكن لمن حاربك محارباً ولمن نصب لك العداوة مناصباً، فلأندبنك صباحاً ومساءاً، ولابكين عليك بدل الدموع دماً، حسرة عليك وتأسفاً على ما دهاك وتلفهاً حتى اموت بلوعة المصاب، وغصة الاكتياب.
السلام عليكم اعزاءنا ورحمة الله وبركاته، حلقة اخرى من هذا البرنامج نفتتحها بالقول انه قبل مقتل الحسين عليه السلام بلغ بالمسلمين ما بلغ فكان لابد من تقديم دماء صارخة في العقول والنفوس، مدوية في الضمائر الخائنة، موقظة للائمة من غفلة مردية في الجحيم، وكان لابد من كلمة صارخة في الافاق بعد شهادة الامام الحسين صلوات الله عليه، تعرف الناس في أي شيء اقدموا وعن اية فريضة تخلفوا.
فبعد عاشوراء الفجيع، جيء بالامام السجاد علي بن الحسين على بعير ضالع والجامعة في عنقه، ويداه مغلولتان الى عنقه، واوداجه تشخب دماً، فكان يقول: يا امة السوء لا سقياً لربعكم، يا امة لم تراع جدنا فينا لو اننا ورسول الله يجمعنا يوم القيامة، ما كنتم تقولونا؟! وأومأ الى الناس ان اسكتوا، فلما سكتوا حمد الله واثنى عليه وذكر النبي فصلى عليه، ثم قال: ايها الناس، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب انا ابن من انتهكت حرمته، وسلبت نعمته، وانتهب ماله، وسبي عياله، انا ابن المذبوح بشط الفرات، من غير ذحل ولا ترات، انا ابن من قتل صبراً، وكفى بذلك فخراً الى ان خاطبهم عليه السلام بقوله: بأية عين تنظرون الى رسول الله اذ يقول لكم: قتلتم عترتي وانتهكتم حرمتي، فلستم من امتي.
فارتفعت الاصوات بالبكاء وقال بعضهم لبعض: هلكتم وما تعلمون واذا كان للمصاب زفرات فله ايضاً آيات فقد تغيرت اوضاع الموجودات، واختلفت حالات الكائنات، فبكى الوجود باسره بعد شهادة ابي عبد الله الحسين سلام ربنا عليه وكان ذلك البكاء من نوع آخر غريب.
روى ابن عساكر الدمشقي الشافعي في ترجمة الامام الحسين من تاريخ دمشق ص242 باسناده عن خلاد صاحب السمسم وكان ينزل ببني جحدر، قال: حدثتني امي قالت: كنا زماناً بعد مقتل الحسين، وان الشمس تطلع محمرة على الحيطان والجدران بالغداة والعشي قالت: وكانوا لا يرفعون حجراً الا وجدوا تحته دماً.
والارض والسماء بكتا على سيد شباب اهل الجنة بل وحتى الطيور احست بالفاجعة، فناحت ليس ذلك خيالاً، ولا تصوراً جنحت به العواطف الشاعرية بل كان ذلك واقعاً على وجه الحقيقة، فذلك احد علماء الحنفية اخطب خوارزم الحافظ ابو المؤيد الموفق بن احمد البكري الخوارزمي المكي، يروي في كتابه مقتل الحسين عليه السلام ج2 ص91 طبعة الغري باسناد عن ابي عبد الله الحافظ قال: سمعت الزبير بن عبد الله قال: سمعت ابا عبد الله بن وصيف قال: سمعت المشحاط الوراق يقول: سمعت الفتح بن سحروف العابد يقول: كنت افت الحب للعصافير كل يوم، فكانت تأكل فلما كان يوم عاشوراء فتتت لها فلم تأكل، فعلمت انها امتنعت لقتل الحسين بن علي عليهما السلام.
ونبقى مع الخوارزمي الحنفي في مقتل الحسين ج2ص92 ليروي لنا باسناد يتوثقه عن ابي عبد الله الحافظ قال: حدثني ابو محمد يحيى بن محمد العلوي قال: حدثني الحسين بن محمد العلوي قال: حدثنا ابو علي الطرطوسي قال: حدثني الحسن بن علي الحلواني، عن علي بن معمر، عن اسحاق بن عباد، عن المفضل بن عمر الجعفي، قال: سمعت جعفر بن محمد يقول: حدثني ابي محمد بن علي قال: حدثني ابي علي بن الحسين قال: لما قتل الحسين جاء غراب فوقع في دمه ثم تمرغ ثم طار فوقع بالمدينة على جدار فاطمة بنت الحسين، وهي الصغرى فرفعت رأسها اليه فنظرته فبكت وقالت:
نعب الغراب فقلت من
تنعاه، ويلك من غراب
قال الامام فقلت من؟
قال الموفق للصواب
ان الحسين بكربلا
بين المواضي والحراب
قلت: الحسين؟ فقال لي:
ملقى على وجه التراب
ثم استقل به الجناح
ولم يطق رد الجواب
فبكيت منه بعبرة
ترضي الاله مع الثواب
قال محمد بن علي فنعته أي فاطمة العليلة لأهل المدينة، فقالوا: جاءت بسحر بني عبد المطلب فما كان باسرع من ان جائهم الخبر بقتل الحسين عليه السلام.
اجل كل شيء حاول المضللون ان ينكروه، وان لا يصدقوه حذرين كذلك من ان يصدقه الناس فيعرفوا لأهل البيت كرامة فسارع اولئك المنكرون الى تشويه الحقائق من خلال التهم الضالة، فرموا القرآن الكريم بالسحر، والرسول الصادق الامين بالساحر، وهنا قالوا جاءت فاطمة العليلة بسحر بني عبد المطلب، حتى توالت الانباء وتواردت الاخبار ان الحسين في ذلك اليوم كان قد قتل، فصح قولها وثبت فصدقها الناس وكذبوا المكذبين.
وكان الامر بعد ذلك حقيقة وآية لمصاب عظيم، وعبرة وعبرة كبرى لحادث آليم، وتذكرة لشأن جسيم:
ليس هذا لرسول الله يا
امة الطغيان والبغي جزا
لو رسول الله يحيا بعده
قعد اليوم عليه للعزا
*******