استطاعت حركة المقاومة الإسلامية حماس أن تختار خليفة لرئيس مكتبها السياسي، الشهيد إسماعيل هنية، في وقت قياسي، بحيث أكدت، من خلال ذلك، حيويتها وفعّالية مؤسساتها، على نحو أظهر عدم تأثر هيكلها التنظيمي بآثار العدوان المدمر الذي يطال قطاع غزة منذ أكثر من عشرة أشهر، والذي يستهدف، بحسب مخططات الكيان، القضاء على حركة المقاومة وتصفية قياداتها، أو على الأقل إضعافها وضعضعة كيانها، بحيث تتحول إلى مجرد تنظيم لا يملك القدرة على إدارة معركة مستقبلية.
وإذا كانت هذه الفعّالية في اختيار خلَف لرئيسها الشهيد بسرعة قياسية تستحق الالتفات إليها وتقدير مفاعيلها، على المستوى التنظيمي، فإن في شخص من اتُّفِق عليه قائداً جديداً للحركة ما يفترض البحث في دلالاته وانعكاسه على مسار الحركة، ومسار المواجهة مع الكيان، والتي من الطبيعي ألّا تنتهي مع أي اتفاق على وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، أو حتى أي اتفاق على هدنة طويلة المدى.
ففي خبر كان بمثابة رسالة متعددة الاتجاهات والمضامين، انتخبت الحركة عدو "إسرائيل" الأول، قائد الحركة في قطاع غزة، رئيساً لمكتبها السياسي، والذي درجت العادة سابقاً على أن يكون من القيادات المقيمة بالخارج، نتيجة أسباب تتعلق بالحصار المفروض على القطاع منذ عام 2007، مع ما يعنيه هذا الحصار من صعوبات تتعلق بصعوبة تحرك قادة الداخل وتواصلهم مع الخارج، من دون أن ننسى إمكان تمكن الكيان الإسرائيلي من الوصول إليهم وقتلهم بسهولة في غزة. بناءً عليه، لم تكن خطوة الحركة، المتمثلة باختيار السنوار رئيساً لمكتبها السياسي، عاديةً، بحيث إن في الخارج عدداً غير قليل من القيادات التي تُعَدّ مرشحة دائمة لهذا المنصب.
في هذا الإطار، يجب الإشارة إلى أن تعيين الشهيد إسماعيل هنية رئيساً للحركة، في أيار/مايو 2017، كان بمنزلة استكمال للتحول الجوهري في توجه الحركة، والذي بدأ العمل عليه منذ عام 2014 بعد فترة ساءت خلالها علاقة الحركة بمحور المقاومة، نتيجة موقفها تجاه الدولة السورية، بحيث إن مرحلة انطلاق ما يسمى "الربيع العربي" شهدت انتظام الحركة إلى جانب مجموعة من الدول، التي رأت في أطراف ما عُرف لاحقاً بمحور المقاومة، وخصوصاً الجمهورية الإسلامية الإيرانية وحزب الله، داعمةً لأنظمة أرادت هي، ومن خلفها القوى الغربية، إسقاطها. فمن خلال تعيينه، بالإضافة إلى اختيار الشهيد صالح العاروري نائباً له، والقائد يحيى السنوار قائداً للحركة في القطاع، أمكن التقدير أن الموقف السياسي للحركة انتظم، من جديد، ضمن تشكيلات محور المقاومة، في إطار تحديد نشاطها الأساسي في مواجهة الكيان من دون الدخول في تجاذبات الإقليم السياسية، والتي أثبتت الأيام أن الهدف الرئيس من ورائها لا يخرج عن إطار تفتيت دول المنطقة، على نحو يعني ضمان تفوق الكيان من جهة، وتصفية القضية الفلسطينية من جهة أخرى.
وإذا عدنا إلى طوفان الأقصى، الذي شكّل باكورة جهد يحيى السنوار خلال فترة لا يمكن تقديرها في أيام وأشهر، لناحية التخطيط والتحضير والتنفيذ، فإن إعلان قادة الخارج عدم اطّلاعهم الدقيق على ساعة الصفر المحددة لانطلاقه، أو مراحل التحضير له، أو حدوده، قد يدفع إلى تسميته بطوفان السنوار، بحيث إن المفاجأة والذهول، وحتى الامتعاض، كانت سمة بارزة عند عدد من قادة الخارج في اللحظات الأولى لهذا الطوفان. فعلى الرغم من أن الواقع كان يفترض معرفة بعضهم بتحضير حدث كبير في غزة، فإن حجم الطوفان ونتائجه الأولية كانت صادمة لعدد منهم. وبالتالي، كثُر الحديث، في تلك المرحلة، وخصوصاً في أوساط الوسطاء، عن إمكان تحميل الجناح العسكري في الحركة، من دون السياسي، مسؤولية ما يحدث، مع ما يعنيه هذا الأمر من تضحية بقيادات الحركة وبتشكيلات المقاومة في غزة.
غير أن هذا التوجه حُكم عليه بالفشل، نتيجة إصرار قائد الحركة الشهيد إسماعيل هنية، ومن خلفه نائبه القائد الشهيد صالح العاروري، على تبني طوفان الأقصى وعدّه نتيجة طبيعية لحرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه ومحاصرته والمساس بمقدساته، وكذلك نتيجة تبنيه مساراً تفاوضياً يوازي الجهد العسكري المقاوم في غزة، ولا يتخطى قيادات الداخل في أي اتفاق على تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار في غزة.
بناءً عليه، ظهر نشاط الحركة بعد طوفان الأقصى متناسقاً مع نشاط محور المقاومة وتوجهاته، بحيث تأكد عقم خيارات الكيان بشأن إمكان نجاح ضغوط الوسطاء على القيادة السياسية للوصول إلى استسلام الحركة وتطويعها، من خلال دفعها إلى الانقلاب على القيادة العسكرية للحركة، والتخلي عن جهود جبهات الإسناد وتضحياتها، من أجل قبول تسوية استسلام لا تتوافق مع معطيات الميدان، الذي نجح في إغراق الجيش والمجتمع الإسرائيليين في دوامة من الاستنزاف.
في هذا الإطار، لا يمكن قراءة قرار اغتيال القائد إسماعيل هنية، وقبله القائد صالح العاروري، إلا نتيجة لعدم إمكان المراهنة عليهما فيما أشرنا سابقاً. فعلى الرغم من عدّ القائد هنية رجل تفاوض بامتياز، فإن مساره في التفاوض لم يخرج عن تلك الثوابت التي حددتها قيادة الميدان في غزة، وبالتالي كانت هذه الأسباب من الدوافع التي أدت إلى قرار تصفيته.
لذلك، لم يكن من الممكن قراءة اختيار القائد يحيى السنوار رئيساً للمكتب السياسي للحركة إلا في إطار الرد المباشر على اغتيال إسماعيل هنية. فمن خلال هذا الاختيار، يبرز بوضوح إصرار الحركة على صواب خيار طوفان الأقصى وصحته، واستمرارها في نهج المقاومة نفسه، إلى جانب المحور الممتد من إيران إلى اليمن، مروراً بالعراق وسوريا ولبنان.
فالمسار الحالي للحركة يدلّل على توجه نهائي للتخلي عن براغماتية حكمت مسارها التفاوضي في المرحلة الأخيرة، بحيث إن حصر تفاعلات إنتاج القرار الفعلي للتفاوض في أنفاق القطاع وبين يدي من يقاتل في الميدان سيُظهر تغيراً جذرياً في منطلقات التفاوض لناحية فرض معادلات جديدة تستند إلى معطيات المعركة في غزة، وفي جبهات الإسناد، والتخلي، من ناحية أخرى، عن السلوك الذي كان يستهدف الوصول إلى هدنة تحت وطأة تخليص المدنيين من إجرام الكيان على رغم ضخامة عدد الشهداء والجرحى.
فإذا كانت الحركة سهّلت، في المرحلة الماضية، الوصول إلى حلول تستهدف تجنيب المدنيين ما يحدث من مجازر، فإن ذلك المسار استند إلى قناعة تفترض أن الخروج من المعركة في تلك اللحظة يحقق لها انتصاراً بالنقاط. فالهدف الإسرائيلي، بشأن إضعافها والقضاء على قياداتها وإطلاق سراح الأسرى بالقوة، لم يتحقق بالفعل.
أمّا في مرحلة ما بعد اغتيال القائد إسماعيل هنية، فإن قرار الحركة اختيار من لا يمكن تعريفه، في هذا التوقيت، إلا بمن يبحث عن النصر الواضح، يُظهر تمسكها بمعطيات الميدان وبمعادلاته ورموزه، التي لن تقبل إلا أن يكون أي اتفاق مستقبلي انعكاساً لنتائج معركة أغرقت الكيان في حرب استنزاف لم تسلم منها أي بقعة يوجد فيها إسرائيلي. فالخيار، الذي تبنته الحركة من خلال اختيار يحيى السنوار رئيساً لمكتبها السياسي، لا يمكن تعريفه وتوصيفه إلا بالتخلي عن فكرة النصر الضمني، والإصرار على تحقيق النصر الواضح، والذي لا لبس فيه.