يوم 12 أيلول/ سبتمبر، تصادف الذكرى الـ17 لاندحار العدو الإسرائيلي من غزة عام 2005، بعد احتلالها لمدة 38 عاماً بعد هزيمة عام 1967. منذ احتلالها، كانت غزة شوكة في حلق العدو وكابوساً أرق قادته، الأمر الذي دفع رئيس وزراء العدو الأسبق إسحاق رابين إلى أن يقول: "أتمنى لو أستيقظ يوماً وأرى غزة وقد ابتلعها البحر".
كما أجبر أرئيل شارون، رئيس وزراء العدو في حينه، على التراجع عن رفضه القاطع للانسحاب من غزة وإطلاق عبارته المشهورة "نتساريم كتل أبيب"، في إشارة إلى تمسكه بمستوطناته في غزة، وإذا به يسحب آخر جنوده منها في مثل هذا اليوم، ويفكّك كل المستوطنات، ويجلي آلاف المستوطنين من دون أدنى شرط.
شكّل تحرير غزة نقطة فارقة في التاريخ الفلسطيني، لكونها المرة الأولى التي يتمكّن فيها الشعب الفلسطيني، بفعل المقاومة، من طرد الاحتلال الإسرائيلي من أرضٍ فلسطينية محتلة منذ النكبة عام 1948، من دون اتفاق أو تسوية أو دفع أثمان سياسية.
فكّك العدو خلال اندحاره 21 مستوطنة تشكل نحو 35% من مساحة قطاع غزة، ويستوطن فيها نحو 8600 مستوطن. ومنذ اندحار العدو عنها، لم تهدأ غزة ولم تستكن، ولم تقبل العيش الرغيد المغمس بالذل والهوان، واختارت طريق المقاومة حتى التحرير الكامل لكل فلسطين، وكانت رمزاً للصمود والتحدي عندما جثم العدو على أرضها، وتحوّلت إلى أيقونة المقاومة ورأس حربتها بعد طرده ذليلاً صاغراً عن أرضها.
يعترف العدو بأنَّ جبهة قطاع غزة أكثر الجبهات قابلية للاشتعال وأقلّها استقراراً، بمعنى أنها تشكّل تهديداً دائماً له، الأمر الذي يجبره على بقاء قواته وأدواته العسكرية والاستخبارية في حالة جاهزية واستعداد، ويدفعه دوماً إلى قراءة نيات قيادة المقاومة والخشية من مبادرتها بمهاجمة قواته، فكيف تحوّلت غزة خلال 17 عاماً إلى عامل تهديد متواصل للعدو، رغم فرض حصار شامل عليها ما زال مستمراً؟
ساهم عدد من العوامل في هذا التحوّل اللافت، أبرزها:
- شكّل فوز حركة "حماس" في الانتخابات العامة عام 2006 وتشكيل حكومة فلسطينية - رفضت شروط الرباعية الدولية للاعتراف بها، وهي الاعتراف بالعدو، ونبذ المقاومة، وقبول اتفاقية أوسلو والقرارات الدولية - العامل الأبرز الذي مهَّد الطريق وهيأ الظروف لتطور المقاومة في قطاع غزة، حتى أضحت مهدداً دائماً للعدو.
أدى عدم تسليم قيادة السلطة وحركة "فتح" برئاسة محمود عباس بنتائج الانتخابات - رغم التسليم الشكلي بها - إلى تصاعد الفلتان الأمني، وعرقلة عمل الحكومة التي شكلتها حركة "حماس"، ما أدى إلى اندلاع صراع مسلح استمر عدة أيام بين حركتي "حماس" و"فتح"، انتهى بسيطرة كاملة لحركة "حماس" على قطاع غزة منتصف عام 2007، الأمر الذي أدى إلى نشأة بيئة أمنية حامية للمقاومة، وتشكيل حكومة أعطتها الشرعية والحماية والغطاء بكل أذرعها، ما أتاح لها تطوير قدراتها العسكرية، وأصبح لأكثر من 13 فصيلاً مقاوماً عشرات المواقع العسكرية وورش التصنيع وغرف التحكّم والسيطرة، وتوفرت لها الأجهزة الأمنية الحكومية الدعم والإسناد والحماية، واستبدلت عقيدة التنسيق الأمني مع العدو بعقيدة قتالية ومقاومة للعدو، كما ساهمت في الحد من دور العملاء، وجفّفت منابعهم، وكشفت العديد من خطط الشاباك، وفكّكت خلاياه.
- بناء القوة العسكرية ومراكمتها: تطوّرت القدرات القتالية للمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وتمكّنت من تطوير قواعد الاشتباك مع العدو، وتغلّبت على معضلة قطع خطوط الإمداد العسكري باللجوء إلى التصنيع الذاتي المحلي الذي أثبت نجاحه في مواجهة العدو، وسجّلت كل معركة رقماً قياسياً في كثافة نيران المقاومة بالمقارنة مع المعارك السابقة، وتنوّعت أسلحة المقاومة، واعتمدت أساليب إبداعية لتطوير منظومات الصواريخ والأنفاق والطيران المسير والقتال خلف خطوط العدو براً وبحراً، وحققت إنجازات بارزة في المعارك التي خاضتها منذ عام 2006.
ومن أبرز إنجازات المقاومة قتل الإرادة القتالية البرية للعدو بعد معركة "العصف المأكول" عام 2014، والتي تكبّد فيها خسائر فادحة لقواته التي نفّذت مناورة برية على تخوم قطاع غزة، وقُتل فيها ما يزيد على 70 جندياً، إضافة إلى تسليم العدو بالواقع في غزة وعدم قدرته على كسر إرادة المقاومة فيها، الأمر الذي دفعه إلى إسقاط أحد أبرز أهدافه، وهو نزع سلاح المقاومة في غزة، بسبب عجزه عن تحقيقه، كما تعاطى العدو، ولو جزئياً، مع إجراءات تخفيف الحصار عن غزة، وبات يدرك المعادلات التي أرستها المقاومة في غزة، وأبرزها ربط الساحات التي ترسخت بعد معركة "سيف القدس"، فالعدوان الفجّ على المكونات الوطنية، كالمقدسات والأسرى والضمّ، وعمليات الاغتيال، هما تهديد كافٍ لاندلاع مواجهة عسكرية مع غزة.
- دعم محور المقاومة: شكّل الدعم المادي والعسكري واللوجستي المقدم من الجمهورية الإسلامية في إيران وحزب الله اللبناني العمود الفقري لتطوير قدرات المقاومة في غزة وتحوّلها إلى تهديد دائم للعدو، وهو ما يؤكده قادة المقاومة والمحور، وتؤكده الشواهد الميدانية على الأرض.
- الإرادة والروح القتالية لعناصر المقاومة والتحدي والإصرار والتسابق على تنفيذ العمليات العسكرية وحب الشهادة والتضحية والفداء من العوامل المهمة التي يقابلها ضعف الرغبة في القتال والتضحية لدى جنود العدو وتسابقهم على تجنّب العمل في الألوية القتالية وهروبهم من الخدمة العسكرية. وتشكل قيادة المقاومة نموذجاً فريداً في التضحية، فقد استشهد عشرات القادة العسكريين والسياسيين منهم، كما استشهد العديد من أبنائهم وعائلاتهم.
كما ساهمت الحاضنة الشعبية وإسنادها المقاومة وصمودها، رغم الحصار واستعدادها للتضحية، في إجهاض مساعي العدو في التحريض على المقاومة وزرع فتنة داخلية بين الشعب ومقاومته، فكانت الحاضنة الشعبية أحد عوامل القوة في تمتين الجبهة الداخلية والتفافها حول المقاومة وتماسكها. في المقابل، يقر العدو بأنَّ التهديد الداخلي وضعف الحصانة الذاتية في مجتمعه وعدم تقبله الخسائر يعدّ التهديد الأخطر على مستقبله.
ساهمت تلك العوامل وغيرها في بقاء جبهة قطاع غزة تهديداً دائماً للعدو، وعكست تعاظم عدد من عناصر القوة المختلفة، العسكرية والشعبية والتنظيمية، وقوة العلاقة مع محور المقاومة، وقوة الإرادة والصمود والتحدي، وقوة التمسك بالموقف السياسي الوطني. وفي المقابل، تراكم نقاط ضعف العدو، وتحديداً ضعف الإرادة القتالية لقواته، وضعف جبهته الداخلية وعدم تقبلها الخسائر، الأمر الَّذي يدلّل على نجاح المقاومة في قطاع غزة، ومن خلفها الحاضنة الشعبية بعد دحر الاحتلال عن غزة، في تحويل القطاع إلى مصدر تهديد دائم للعدو، وإلى تجربة ملهمة للضفّة الغربية المحتلة وباقي الساحات في مواجهة الاحتلال على طريق كنسه عن الأرض الفلسطينية المحتلة.
وسام أبو شمالة