وروي عن الامام الرضا (عليه السلام) انه قال: “لا يتمُّ عقلُ امرئ مسلمٍ حتّى تكون فيه عشرُ خِصالٍ: الخيرُ منه مأمول والشَّرُّ منهُ مأمونٌ، يستكثِرُ قليلَ الخير من غيره ويستقلُّ كثير الخير من نفسه، لا يسأمُ من طلب الحوائج إليه ولا يملُّ من طلبِ العلم طولَ دهرِه، الفقرُ في الله أحبّ إليه من الغنى، والذُّلُّ في الله أحبُّ إليه من العِزُّ في عدوّه، والخمُولُ أشهى إليه من الشُّهرةِ”.
ثمَّ قال (عليه السلام): “العاشِرةُ، وما العاشِرَةُ”.
قيل له: ما هي؟
فقال (عليه السلام): “لا يرى أحداً إلّا قال: هو خيرٌ منّي وأتقى. إنّما الناسُ رجُلانِ: رجلٌ خيرٌ منه وأتقى، ورجلٌ شرُّ منهُ وأدنى، فإذا لِقيَ الذي شرٌّ منه وأدنى قال: لعلَّ خيرَ هذا باطنٌ وهو خيرٌ له وخيري ظاهر وهو شرٌّ لي، وإذا رأى الذي هو خيرٌ منه وأتقى تواضع له ليلحَقَ به. فإذا فعل ذلك فقد علا مجدُهُ وطابَ خيرهُ وحسُنَ ذِكرُه وساد أهل زمانه”. (تحف العقول: ص443)
هذا الحديث وارد ايضاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) برواية الامام الباقر (عليه السلام) مع اختلاف يسير ذكره الشيخ الصدوق (رحمه الله) في كتابه (الخصال).
وبالتالي أياً كان فان مصدره بيت الوحي والرسالة.
الحديث بخصاله العشر، كنز في التربية والاخلاق، وكل خصلة فيه تحتاج الى وقفة مستقلة لشرحها، وبيان آثارها، واهميتها، وضرورة الاتصاف بها.
نختار منها الخصلة العاشرة التي كانت محط الاهتمام البالغ فيما نسب للمعصوم.
مع ان الخصال الباقية شريكة لهذه الخصلة العاشرة في تمام عقل المسلم، الا ان هذه الخصلة حظيت بمزيد عناية من المعصوم من جهة شرحها والتفصيل بها، فلنطالعها بشيء من التأمل والتفكر:
قال (عليه السلام): “لا يرى أحداً إلّا قال: هو خيرٌ منّي وأتقى” هذه هي الخصلة العاشرة.
وكان بامكان الامام ان يذكرها وينهي الحديث، لكنه لم يفعل بل أخذ يبين المقصود منها ويشرحها.
أهمية التواضع
فروح هذه الخصلة هو التواضع، فلا يرى الانسان نفسه بأنه حاز على الكمال دون الناس.
وليس المطلوب من عبارة: “قال: هو خيرٌ منّي وأتقى” ان يقول الانسان بلسانه هكذا، بل هو قول النفس لصاحبها حتى يضبط افعاله وأقواله الخارجية على وفقها.
بعدها بدأ الامام بالبيان عندما قال: “إنّما الناسُ رجُلانِ: رجلٌ خيرٌ منه وأتقى، ورجلٌ شرُّ منهُ وأدنى”.
وهذا من التقسيم الواقعي الذي يحكم به في الخارج، اذ القسم الثالث المتصور عقلا في المساواة يقصى بحساب الاحتمالات لإستبعاد وجوده خارجاً.
لأن هكذا مساواة بين انسان وانسان في كل حركة وسكنة وفعل وقول وسلوك لهو ضرب من الخيال، اذ لا بد من المفاضلة ولو بشيء اقل من القليل فيندرج حينها في احد القسمين الذين ذكرهما الإمام.
اذاً فكل انسان يرى انساناً آخر فانه في واقعه لا يخلو اما ان يكون اعلى منه مرتبة او أقل.
والامام بعد ان ذكر هذا التقسيم اجاب في العبارة اللاحقة على اشكال مقدر قد يطرق الاذهان، وهو: (اذا كان هناك قسم يكون شر وأدنى فلماذا اذاً اقول انه خير مني وأتقى؟
فيأتي جواب الامام (عليه السلام) بقوله: “فإذا لِقيَ الذي شرٌّ منه وأدنى، قال: لعلَّ خيرَ هذا باطنٌ، وهو خيرٌ له، وخيري ظاهر، وهو شرٌّ لي”.
هذه الفقرة حقها ان تلقى فيها المحاضرات واقعاً، وتؤلف فيها الكتب، فهي تتكلم عن منهج في الاسلام وفي تربيته الاخلاقية، وله شواهد كثيرة في القرآن واحاديث المعصومين، التي تندرج في ضمنه وتدور في فلكه.
فالامام (عليه السلام) يعلمنا كيف نحدث انفسنا مع من نلقاه من الناس وظاهره انه أدنى منا درجة في طاعة الله، كأنه يرتكب بعض المعاصي ونحن لا نرتكبها مثلا.
لا يوجد إنسان كله شر محض
فأقول مع نفسي: ما يدريني انا بباطن هذا الانسان الذي ظاهره المعصية، فلا يوجد انسان كله شر محض، فيحتمل ان يكون الخير فيه باطن وخفي عنّي، فيكون مرجحاً على ظاهره في علم الله، ويجلب له الخير في النهاية فتعلو كفة خيره على شره وبه يوفق للتوبة ولنهج الحق الذي يريده الله تعالى.
وفي رواية الباقر (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله) لنفس الحديث والتي نوهنا عنها في بداية الكلام، وقلنا ان فيها اختلافا يسيرا، نجد ان هناك فقرة تقول:
“وإذا لقى الذي هو شر منه وأدنى قال: عسى خير هذا باطن وشره ظاهر، وعسى أن يختم له بخير”.
اذاً احتمال خاتمة الخير لمن ظاهره الشر والضلال موجود، بسبب خير باطن عنده لا نعلمه.
وفي المقابل ان ما أحسبه من الخير الظاهر عندي لعله يكون مدعاة للعجب والرياء والتكبر والغلو، فتكون نتيجته الشر في عاقبتي. كما في بعض النقولات التي تذكر ان بعض من ظاهرهم الصلاح يرفضون الاقرار بالشهادة لله ورسوله وأوليائه عند تلقينهم في ساعة الاحتضار.
فيعدلون من الحق الى الباطل. أجارنا الله تعالى من الخذلان.
فبعد هذا الكلام المنسوب للمعصوم يصبح من المجازفة بمكان ان نحكم على مصائر الافراد المشخصين، ونقول بضرس قاطع ان فلانا مصيره كذا وفلاناً كذا.
ويستثنى من ذلك ما دلت عليه الدلائل القاطعة بتحديد مصيرهم باخبار من الله تعالى في القرآن او بواسطة كلام المعصومين، كقتلة الانبياء والاوصياء والناصبين لهم العداء عن عمد واصرار حتى ممامتهم.
وكذلك من دعا عليه المعصوم، وأشهد الله عليه.
هؤلاء من المعلومة مصائرهم باخبار المعصومين الصادقين، وانما كلامنا مسرحه عامة الناس ممن يتصور فيهم الخطأ والشر القابلين للتوبة والهداية. فانا لست معصوما حتى اخبر بمصير أمثال هؤلاء الناس.
والمحذور هو كما ذكره الإمام بعدم الإحاطة بباطن ذلك الإنسان.
وأما الكلام بصورة عامة عن مصير أهل الباطل فلا يدخل في المحذور، فبيان الحق من الباطل في السلوك وآثاره ومآله، مما لا شك في مشروعيته.
فقولي: (إن من يلقى الله تعالى وهو مشرك فمصيره إلى النار) فهذا ليس فيه بأس بعد أن نطق به القرآن والأنبياء والأوصياء.
وقولي (بان طريق النصب لأهل البيت عليهم السلام يؤدي النار)، فهذا أيضا مما لا محذور فيه، بل التحذير منه، والقدح فيه إذا توفرت ظروفه الملائمة يدخل في واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثم ختم الإمام كلامه حول هذه الخصلة العاشرة بقوله: “وإذا رأى الذي هو خيرٌ منه وأتقى، تواضع له ليلحَقَ به”.
وهذه الفِقْرة واضحة في ذكر التواضع لمن هو خير واتقى، وذلك للاستفادة منه واللحاق بدرجته.
نتيجة الإلتزام بالخصال العشر
ثم بعد ذلك ذكر الإمام نتيجة من يلتزم بتلك الخصال العشر، واخبر ببشرى كبيرة حيث قال: “فإذا فعل ذلك فقد علا مجدُهُ، وطابَ خيرهُ، وحسُنَ ذِكرُه، وساد أهل زمانه”.
وأخيرا فان هذه التربية العالية نبعت من هذا البيت المبارك بيت محمد وآله (صلوات الله عليهم أجمعين) في وقت لم يكن في الناس من يعرف لها اسماً ولا رسماً.
تربية الإسلام العظيم وأئمته الأتقياء ونوابهم الفقهاء، تربية الاحتياط والورع في اتخاذ المواقف ووضع الشيء موضعه، وتجنب استعداء الناس ما أمكن ذلك، بمعرفة مواضع الشدة واللين، والموازنة بين المصلحة والمفسدة، والابتعاد عن قصر النظر وتحميل الأمور ما لا تحتمل.
والسلام على سيدنا ومولانا أبي الحسن الرضا ورحمة الله وبركاته. والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله على محمد وآله أبدا.
بقلم عبد الناصر السهلاني