السلام عليكم مستمعينا الأطائب.. أطيب التحيات ملؤها من الله الجميل أجمل الرحمة والبركات نهديها أيها الإخوة والأخوات، مرحبين بكم وأنتم تشاركوننا في استكشاف المظاهر الفريدة للجمال الحق الحق التي سطرها أبطال الملحمة العاشورائية الخالدة وكذلك إستجلاء جميل الصنع الإلهي بهؤلاء الأولياء الصادقين – صلوات الله عليهم أجمعين -.
في لقاء اليوم وهو الثاني عشر من هذا البرنامج نتأمل معاً – أيها الأفاضل – في مشهدين إقتنع فيهما سيد الشهداء وأخوه أبوالفضل العباس عن شرب الماء بعد أن تمكنا منه، ليسطرا – صلوات الله عليهما – جمالية أسمى صور الوفاء والحب والعشق للإمام الحق في الموقف العباسي النبيل، وجمالية الغيرة عن العيالات النبوية في الموقف الحسيني الأغر.. تابعونا على بركة الله..
نبدأ أيها الأحبة، بموقف سقاء الحسين وسقاء الحسينيين حب الحسين على مدى العصور والأزمان.. في هذا الموقف الذي كان في خضم مشهد مصرع أبي الفضل العباس – روحي لوفائه الفداء -، وقد جاء في حال صار كبده من شدة العطش كالجمرة المتوقدة أو (كصالية الغضا) كما وصفه المؤرخون، وكان قد طلب – عليه السلام – من مولاه الحسين – صلوات الله عليه – أن يأذن له بالقتال فأمره أن يطلب للعيالات النبوية ماءً من المشرعة التي وضع عليها جيش البغي الأموي أربعة آلاف من زبدة مقاتليه لمنع الماء عن الركب الحسيني، فاستجاب أبوالفضل لأمر مولاه، قال المؤرخون، كالحافظ الحنفي القندوزي في كتاب ينابيع المودة وغيره:
(فحمل عليهم العباس فقتل رجالا من الأعداء حتى كشفهم عن المشرعة، ودفعهم عنها، ونزل فملأ القربة، وأخذ غرفة من الماء ينظر إليها وهو يتألم لعطش مولاه الحسين وأهل بيته المحمديين، ثم قال: "والله لا أذوق الماء وأطفاله عطاش والحسين" وأنشأ يقول:
يا نفس من بعد الحسين هوني
فبعده لا كنت أن تكوني
هذا الحسين شارب المنون
وتشربين بارد المعين
والله ما هذا فعال ديني
ولا فعال صادق اليقين
فأخذته السهام من كل جانب فأصابته حتى صار جلده كالقنفذ وهو يقول:
أقاتل اليوم بقلب مهتد
أذب عن سبي النبي أحمد
أضربكم بالصارم المهند
حتى تحيدوا عن قتال سيدي
إني أنا العباس ذو التودد
نجل علي الطاهر المؤيد
ونبقى أعزاءنا المستمعين في ظلال هذا الموقف النبيل لسقاء أهل الوفاء أبي الفضل العباس – سلام الله عليه – لنرى شهادة بليغة من الإمام الصادق – عليه السلام – بجماليات هذا الموقف الفريد وبلوغه غاية المجهود، وشهادة بجميل الصنع الإلهي بهذا العلم الولائي الخالد وعظيم إكرامه له، جاء في نص زيارة الإمام الصادق لعمه العباس – صلوات الله عليهما – كما ورد في كتاب (مصباح المتهجد) وغيره:
(أشهد وأشهد الله أنك مضيت على ما مضى البدريون والمجاهدون في سبيل الله المناصحون له في جهاد أعدائه المبالغون في نصرة أوليائه الذابون عن أحبائه، فجزاك الله أفضل الجزاء وأوفر جزاء أحد وفي ببيعته واستجاب له دعوته وأطاع ولاة أمره، وأشهد أنك قد بالغت في النصيحة وأعطيت غاية المجهود، فبعثك الله في الشهداء وجعل روحك مع أرواح السعداء وأعطاك من جنانه أفسحها منزلاً وأفضلها غرفا ورفع ذكرك في العليين وحشرك مع النبيين والشهداء والصالحين والصديقين وحسن اولئك رفيقاً، أشهد أنك لم تهن ولم تنكل، وأشهد أنك مضيت على بصيرة من أمرك مقتدياً بالصالحين ومتبعاً للنبيين جمع الله بيننا وبينك وبين رسوله واوليائه في منازل المحسنين فإنه أرحم الراحمين.
مستمعينا الكرام، ونبقى مع الجماليات العاشورائية الفريدة وهي تتجلى في موقف خالد لسيد العطاشى الحسين وهو في الساعات الأخيرة من عصر يوم عاشوراء وقد بقي وحيداً بعد استشهاد حامل لواء عسكره وأخيه المواسي أبي الفضل العباس – عليهما أفضل الصلاة والسلام.
تحت عنوان (جمال شدة البأس في النجدة) يقول سماحة السيد نبيل الحسيني في كتابه (جمال في عاشوراء):
(من الواضح أن جميع مجريات عاشوراء جرت في أجواء الحرب؛ ابتداءً من تجمع الجيوش ومحاصرتها للإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه، في أرض كربلاء، ثم تخيره عليه بين النزول عند رغبة طاغية زمانه ومبايعته قهراً، وهو الإذلال؛ وبين قتاله الذي أبت نفسه المقدسة إلا اختياره. فأعد مع هذه القلة القليلة مواضع الدفاع، وتفقد التلاع والعقبات، وقارب بين الخيام، وحفر مع أصحابه وأهل بيته خندقاً خلف الخيام.
وكانوا مع هذه الأجواء يعيشون أجواءً أخرى وهي: العطش، والجوع، فقد قطعوا عنهم الماء منذ ثلاثة أيام. فكانت النساء والأطفال تعيش حرباً نفسية واقتصادية قبل الشروع في القتال. وما تخلفه من خوف وهلع على نفوس هذه النسوة ومن لاذ بهن.
حتى إذا بزغ وطلع خيط الصبح زحفت هذه الجموع المؤلفة نحو مخيم الحسين وأهل بيته وصحبه عليهم السلام. هذه الأجواء العصبية كلها تدخل ضمن مسمى لغوي، هو: (البأس)؛ فإذا اشتبك القوم والتحموا، كان هو: "الشدة في البأس"؛ وكلما اشتد القتال معه بأس الرجال المحاربين.
وهنا..
في مشتبك الرماح، ومشتجر السيوف، تستغيث إمرأة تطلب النجدة والخلاص من أرذل الخلق وأخسهم وأوضعهم؛ فمن ينجدها والحرب هذا حالها.
ولذا كان الأدهى والأعظم من هذا الحال! هو أن تنكشف هذه الجموع وتقلب ميمنتها على ميسرتها؛ حين حمل عليها الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام وهو يقول:
أنا الحسين بن علي
آليت أن لا أنثني
أحمي عيالات أبي
أمضي على دين النبي
قال عبدالله بن يغوث: ما رأيت مكثوراً قط قد قتل ولده وأهل بيته، وصحبه أربط جأشاً منه ولا أمضى جناناً ولا أجرأ مقدماً ولقد كانت الرجال تنكشف بين يديه إذا شد فيها ولم يثبت له أحد.
ثم يشتد القتال في أقصى درجاته، فينادي عمر بن سعد بالجمع: هذا ابن الأنزع البطين، هذا ابن قتال العرب، إحملوا عليه من كل جانب، فأتته أربعة آلاف نبلة. وحال الرجال بينه وبين رحله.
وفي هذه اللحظات التي لم يشهد مثلها التاريخ، ولا ظهر فيها مثل هذا الجمال، الذي تجلى في غيرة الرجال وحميتهم، لم يغفل أبوعبدالله عليه السلام عن صون حرمه!؟
بل إن التاريخ ليسجل هنا، بأحرف خالدات كخلود صاحبها، موقفاً جمالياً آخر تجلى فيه جمال النجدة التي لم ير مثلها واقعاً عملياً كالذي جسدته عاشوراء على أرض كربلاء.
فبعد هذه الآلاف من النبال واشتداد القتال، كان العطش يشتد به أكثر!! فحمل – بأبي هو وأمي – نحو الفرات على عمرو بن الحجاج وكان في أربعة الآلاف فكشفهم عن الماء، وأقحم الفرس الماء – فيتجلى مشهد آخر من الجمال – ولما مد أبوعبدالله عليه السلام يده للشرب، ناداه رجل أتلتذ بالماء وقد هتكت حرمك؟! فرمى الماء ولم يشرب وقصد الخيمة.
فكانت نجدته لهم، مع شدة عطشه الذي أخذ منه كل مأخذ، لم تمنعه من الإقدام السريع لما دعي إليه، ولم يمهل نفسه حتى هذه الثواني القليلة جداً، التي يستغرقها شرب كف من الماء!!
إنه موقف احتارت به العقول!! وطؤطئت له هامات الرجال، حين بدا تجلي جمال النجدة الحسينية).
وبهذا نصل مستمعينا الأكارم الى ختام حلقة أخرى من برنامجكم ما رأيت إلا جميلا إستمعتم له من إذاعة طهران صوت الجمهورية الإسلامية في ايران، شكراً لكم وفي أمان الله.