السلام عليكم أيها الأطائب ورحمة الله وبركاته..
سمعتم ولا شك بقول سيد الشهداء – صلوات الله عليه -: "إني لا أعلم أصحاباً خيراً ولا أوفى من أصحابي".
وهذا القول هو ثمرة علم الإمام المعصوم المنزه عن جميع أشكال المبالغة، وهو بالتالي يعني أن الأنصار الحسينيين هم الأوفى والأصدق في نصرة الإمام الحق وبالتالي نصرة الله ورسوله – صلى الله عليه وآله -.
وهذا ما شهدت به مواقفهم الفريدة التي احتضنتها ملحمة عاشوراء.. مواقف تجلت فيها تلك النصرة بأجمل صورها، فهلموا معنا لإستجلاء بعض تلكم الصور من زاوية جميل الوفاء للحق والحب للإمام الحق في آخر لحظات الحياة.. وهذا هو محور مشاهد لقاء اليوم والحلقة الخامسة عشر من برنامجكم: ما رأيت إلا جميلا.
أيها الأفاضل، مسلم بن عوسجة هو المجاهد التسعيني الوقور الذي استنارت شيبته الكريمة بنور إقباله المستمر على العبادة وتلاوة القرآن الكريم، وقد كان شيخ القراء في الكوفة جامعاً بين العبادة الخالصة والجهاد الصادق..
روى المؤرخون مشهد مصرعه يوم عاشوراء فقالوا كما في تأريخ الطبري وغيره:
(ثم إن عمرو بن الحجاج حمل على الحسين – عليه السلام – في ميمنة عمر بن سعد من نحو الفرات، فاضطربوا ساعة فصرع مسلم بن عوسجة الأسدي أول أصحاب الحسين – صلوات الله عليه – فمشى إليه الحسين فإذا به رمق، فقال: رحمك ربك يا مسلم بن عوسجة (منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) ودنا منه حبيب بن مظاهر، فقال: عز علي مصرعك يا مسلم! أبشر بالجنة! فقال له مسلم قولاً ضعيفاً: بشرك الله بخير، فقال له حبيب لو لا أني أعلم اني في آثرك لاحق بك من ساعتي هذه لأحببت أن توصيني بكل ما أهمك حتى أحفظك في كل ذلك بما أنت أهل له في القرابة والدين، قال: بل أنا أوصيك بهذا رحمك الله وأهوى بيده الى الحسين أن تموت دونه! قال: افعل ورب الكعبة ولأنعمنك عينا، قال: فما كان بأسرع من أن مات في أيديهم وصاحت جارية له فقالت: يا ابن عوسجتاه! يا سيداه! فتنادى أصحاب عمرو بن الحجاج: قتلنا مسلم بن عوسجة الأسدي. فقال شبث بن ربعي لبعض من حوله من أصحابه: ثكلتكم أمهاتكم، إنما تقتلون أنفسكم بأيديكم، وتذللون أنفسكم لغيركم، تفرحون أن يقتل مثل مسلم بن عوسجة! أما لرب موقف له قد رأيته في المسلمين كريم، لقد رأيته يوم سلق أذربيجان – يعني فتحها – قتل ستة من المشركين قبل أن تلتئم خيول المسلمين! أفيقتل مثله وتفرحون؟!
هذه هي مستمعينا الأطائب الرواية التي رواها المؤرخون.. وأول ما نلمح فيها جمال تقديم الإمام الحق على كل شيء وفي كل حال.. لأنه – عليه السلام – هو الحبيب الذي في حبه حب الله عزوجل..
يقول سماحة السيد نبيل الحسيني في كتابه (الجمال في عاشوراء) وتحت عنوان: (جمال الحب في أن يكون الحبيب أكبر همك):
كل ما يحتاج إليه الوجدان الإنساني من أحاسيس وعواطف يجدها في عاشوراء، بل لا نبالغ إذا قلنا: إن عاشوراء منبع تنهل منه الإنسانية ما يروي وجدانها ويغذيها بالعاطفة؛ فكفى بها أنها روح الدمعة، ومرفأ الحس الإنساني، الذي ترسو عنده جموع المستضعفين والمحرومين.
وعندها يتنفس المهموم نسيم الفرج؛ ويجد اليائس الأمل والإصرار على السير في طريق الحرية والحياة الكريمة، وعندها تجد الأرامل واليتامى الحنان، والثكلى الصبر، والمفجوع التصبر، والواجد التأسي، وغيرها من الصور والمشاهد العديد لمختلف الروابط الإنسانية.
حتى أنك لتجد الحب بأجمل مصاديقه، وأحسن هيئاته، حينما يكون الحبيب أكبر همك بل هو همك الذي لا يشغلك أمر سواه حتى النفس الأخير. هذا النفس الذي يكون كل امرئ فيه مشغولاً بنفسه وينشد خلاصه ولا يحضره سوى أمر نجاته، حتى في هذه اللحظات التي عليها كل الناس، أي لحظات تلفظ الأنفاس وخروج الروح. تراها اختلفت في كربلاء.
فجمال الحب في عاشوراء ليس له شبيه! فهو فريد كفردانيتها! فمن من المحبين وهو يتلفظ أنفاسه الأخيرة، ويجود بروحه، وجراحاته تشخب دما، يكون أكبر همه، حبيبه الواقف عند رأسه؟!!
إنه مشهد لا تجده إلا في كربلاء، عندما حمل عمرو بن الحجاج من نحو الفرات فاقتتلوا ساعة، وفيها قاتل مسلم بن عوسجة، فشد عليه مسلم بن عبدالله الضبابي، وعبدالله بن خشكارة البجلي؛ وثارت لشدة الجلاد غبرة شديدة، وما انجلت الغبرة، إلا ومسلم صريع وبه رمق؛ فمشى إليه الحسين عليه السلام ومعه حبيب بن مظاهر، فقال له الحسين: "رحمك الله يا مسلم؛ منهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا".
ودنا منه حبيب وقال: عزّ عليّ مصرعك؛ يا مسلم أبشر بالجنة.
فقال بصوت ضعيف: بشرك الله بخير.
قال حبيب: لو لم أعلم أني في الأثر لأحببت أن توصي إلي بما أهمك؟
فقال مسلم: أوصيك بهذا؛ وأشار بيده الى الحسين، أن تموت دونه.
قال – حبيب -: أفعل ورب الكعبة، وفاضت روحه بينهما.
فكان مشهداً تجلى فيه جمال الحب حينما يكون الحبيب أكبر هم المحب.
مستمعينا الأحبة، ولهذا الموقف جماليات أخرى منها جماليات الوفاء للمحبوب وهي التي يستجليها آية الله الشيخ باقر شريف القرشي وهو يقرأ هذا الموقف ومواقف أخرى لأنصار سيد الشهداء فيقول في كتابه (حياة الإمام الحسين عليه السلام) كما في كتاب (أخلاق الإمام الحسين عليه السلام):
(لقد غذاهم أبوعبدالله – عليه السلام – بروحه وهديه، وغمرهم بأخلاقه فابتعدت أرواحهم عن الدنيا وتجردوا من مادية الجسد، وتحررت قلوبهم وعواطفهم من شواغل الحياة.. فأي معلم كان الحسين؟ وأي مدرسة ملهمة كانت مدرسته؟ وهل تستطيع أجيال الدنيا أن توجد مثل هذا الطراز إيماناً بالله، وإخلاصاً للحق... وقد تفانى أصحاب الإمام في الولاء والإخلاص له، وضربوا بذلك أروع الأمثلة للوفاء، فهذا مسلم بن عوسجة، وهو من أفذاذ أنصار الإمام برز الى القتال، ووقع صريعاً على الأرض قد تناهبت السيوف والرماح جسمه، مشى إليه الإمام مع حبيب بن مظاهر وكان البطل يعاني آلام الإحتضار، فطلب منه حبيب أن يوصي إليه بما أهمه، فقال له بصوت خافت حزين النبرات: "أوصيك بهذا – وأشار الى الإمام – أن تموت دونه".
أي وفاء هو معروض للزهو والفخار مثل هذا الوفاء؟ لقد أطى لأجيال الدنيا الدروس في الولاء الباهر الحق، فهو في لحظاته الأخيرة، وحشرجة الموت في صدره لم يفكر إلا بالإمام، وأعرض عن كل شيء في حياته.
وهذا البطل العظيم سويد بن أبي المطاع الذي هو من أنبل الشهداء وأصدقهم في التضحية هوى جريحاً في المعركة فتركه الأعداء، ولم يجهزوا عليه لظنهم إنه قد مات، فلما تنادوا بمصرع الإمام لم يستطع أن يسكن لينجو، فقام والتمس سيفه فإذا هو قد سلبوه، ونظر الى شيء يجاهد به فوقعت يده على مدية فأخذ يوسع القوم طعناً فذعروا منه، وحسبوا أن الموتى أعيدت لهم حياتهم ليستأنفوا الجهاد ثانياً مع الإمام، فلما تبين لهم أن الأمر ليس كذلك، انعطفوا عليه فقتلوه، فكان – حقا – هذا هو الوفاء في أصحاب الإمام حتى الرمق الأخير من حياتهم).
والى هنا نصل أيها الإخوة والأخوات الى ختام حلقة أخرى من برنامجكم ما رأيت إلا جميلا، إستمعتم لها من إذاعة طهران وصوت الجمهورية الإسلامية في ايران، شكراً لكم وفي أمان الله.