ركب... برغم العلى فوق الثرى نزلوا
وقد اعد لهم في الجنة النزل
تنسي المواقف اهليها مواقفهم
بصبرهم في البرايا يضرب المثل
ذاقوا الحتوف، باكناف الطفوف... على
رغم الانوف... ولم تبرد لهم غلل
مع بطل شهيد آخر من شهداء ملحمة كربلاء العظمى، ذلك هو: نافع بن هلال المذحجي، الجملي، رجل من الكوفة، ذو شخصية مرموقة، كان سيداً شريفا شجاعا، وقارئا للقران الكريم، وكاتبا ومن حملة الحديث الشريف. ونافع بن هلال احد اصحاب امير المؤمنين علي عليه السلام، حضر معه حروبه الثلاثة في العراق، وخرج الى الامام الحسين عليه السلام فلقيه في طريقه الى كربلاء، فالتحق بالركب قبل شهادة مسلم بن عقيل رضوان الله عليه، وكان نافع قد اوصى ان يتبع بفرسه المسمى بـ "الكامل"، فأتبع مع (عمرو بن خالد الصيداوي) واصحابه.
كتب ابن شهر اشوب المازندراني السروي: لما ضيق الحر على الحسين عليه السلام، خطب عليه السلام باصحابه، وكان فيه خطبته الشريفة قوله: "الا ترون الى الحق لا يعمل به، والى الباطل لا يتناهى عنه "؟! ليرغب المؤمن في لقاء الله، فاني لا ارى الموت الا سعادة، والحياة مع الظالمين الا برما"... فقام نافع بن هلال الجملي فقال للحسين سلام الله عليه: انت تعلم ان جدك رسول الله لم يقدر ان يشرب الناس محبته، ولا ان يرجعوا الى امره ما احب، وقد كان منهم منافقون يعدونه بالنصر، ويضمرون له الغدر، يلقونه باحلى من العسل، ويخلفونه بامر من الحنظل: حتى قبضه الله اليه. وان اباك عليا كان في مثل ذلك، فقوم قد اجمعوا على نصره وقاتلوا معه الناكثين والقاسطين والمارقين... حتى اتاه اجله، فمضى الى رحمة الله. وانت اليوم عندنا في مثل تلك الحالة، فمن نكث عهده وخلع بيعته، فلن يضر الا نفسه، والله مغن عنه.. فسر بنا راشدا معافى، مشرقا ـ ان شئت ـ او مغربا، فو الله ما اشفقنا من قدر الله ولا كرهنا لقاء ربنا، وانا على نياتنا وبصائرنا، نوالي من والاك، ونعادي من عاداك.
نعم ذاك هو نافع بن هلال الجملي، رجل مؤمن ذو بصيرة ومعرفة، وموقف راسخ مع الا مامة الحقة، حتى اخذت بيده يد التوفيق الالهي الى الالتحاق بالركب الحسيني، ليكون احد الا صحاب الذين ناصروا الحسين، وبذلوا مهجهم الطيبة دون الحسين.
ويمضي يوم تاسوعاء، ويحل بعده المساء، فيجمع الامام الحسين صلوات الله عليه اهل بيته واصحابه ليقول لهم: "اما بعد، فاني لا اعلم اصحابا اوفى ولا اخيرا من اصحابي، ولا اهل بيت ابر ولا اوصل من اهل بيتي، فجزاكم الله عني جميعا. وقد اخبرني جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) باني ساساق الى العراق فأنزل ارضا يقال لها "عمورا" و"كربلاء"، وفيها استشهد.. وقد قرب الموعد. الا اني اظن يومنا من هؤلاء الاعداء غدا، واني قد اذنت لكم فانطلقوا جميعا في حل ليس عليكم مني ذمام، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا".
فابى اهل بيته بشدة واصرار وثبات، بدأ فيهم ذلك ابو الفضل العباس عليه السلام، ثم ابى اصحابه الغيارى عازمين جميعهم على الفداء والتضحيه حتى الشهادة: وكان احدهم نافع بن هلال الجملي، وقد عرف الامام ابو عبد الله الحسين من اصحابه صدق النية وحسن الاخلاص في المفاداة دونه، عندها اوقفهم على غامض القضاء، فقال يخاطبهم: اني غدا اقتل، وكلكم تقتلون معي، ولا يبقى منكم احد: وكانت العبارتان الا خيرتان اعظم بشرى لهم، فقالوا بأجمعهم (وفيهم نافع بن هلال): الحمدو لله الذي اكرمنا بنصره، وشرفنا بالقتل معك، اولا نرضى ان نكون معك في درجتك ياابن رسول الله؟! فدعى الامام الحسين عليه السلام لهم بالخير، وكشف عن ابصارهم فرأوا ما حباهم الله من نعيم الجنان، وعرفهم سلام الله عليه منازلهم في الجنة.
وتحل ليلة عاشوراء.. وقد حفت بالمحن والمصائب، واذنت بالفجائع والنكبات، لكن اصحاب الحسين نشطوا في تلك الليلة للعبادة وتاهبوا بروحية عالية للقتال والشهادة وهم ينتظرون الموعد الحق بفارغ الصبر، فكان لهم دوي كدوي النحل في تهجدهم وهم مابين راكع ساجد، وقائم وقاعد. وقد امر الامام الحسين عليه السلام ان يقاربوا بين الخيام؛ ليستقبلوا الاعداء غدا من جهت واحدة، كما امر بحفر خندق وراء خيام اهل بيته ووضع الحطب فيه والقى النار عليه اذا داهمهم العدو من الخلف.
وفي جوف تلك الليلة، يخرج ابو عبد الله الحسين صلوات الله عليه بعيدا عن الخيام، ليتفقد التلاع والقصبات، فيتبعه نافع بن هلال الجملي، سأله الحسين عما اخرجه خلفه، فأجاب نافع: ـ ياابن رسول الله، افزعني خروجك الى جهة معسكر هذا الطاغي.
قال الحسين عليه السلام: اني خرجت اتفقد التلاع والروابي؛ مخافة ان تكون مكمنا لهجوم الخيل يوم تحملون ويحملون. ثم رجع عليه السلام وهو قابض على يد نافع ويقول: هي هي والله، وعد لا خلف فيه.
ثم التفت الى نافع يخيره: الا تسلك بين هذين الجبلين في جوف الليل وتنجو بنفسك؟!
فوقع نافع على قدمي الامام يقبلها، ويقول له: ثكلتني امي! ان سيفي بألف، وفرسي بألف، فو الله الذي من بك علي، لا فارقتك حتى يكلا عن فري وجري.
خفوا لداعي الحرب حين دعاهم
ورسوا بعرصة كربلاء هضابا
اسد قد اتخذوا الصوارم حلية
وتسربلوا حلق الدروع ثيابا
وجدوا الردى من دون آل محمد
عذبا ... وبعدهم الحياة عذابا