السلام عليك يا ابا عبد الله، وعلى الارواح التي حلت بفنائك، واناخت برحلك، عليكم مني سلام الله ابداً ما بقيت وبقي الليل والنهار.
الانتساب الى اشرف خلق الله تعالى (محمد وآل محمد صلوات الله عليه وعليهم) شرف عظيم، وفخر كبير سواء كان ذلك الانتساب او الانتماء عقائدياً او اخلاقياً او موقفياً، علمياً او مذهبياً او عملياً، كل له شرفه وكل له قدره ودرجته عند الله عزوجلّ.
ومع ان اصحاب الامام الحسين (عليه السلام) كانوا منتمين الى امامهم بالاعتقاد والولاء، ومتابعين له بالمعرفة والاخلاق والتسليم، إلا انهم لم يرضوا لأنفسهم ان يكونوا بعيدين عن امامهم، فما احسوا بالخطر يدنو منه، وانه سلام الله عليه راحل الى كربلاء الشهادة، حتى هبوا اليه من كل مكان ليلتحقوا به وينضموا الى ركبه، ولم يُرخّصوا لانفسهم تركه وحيداً في ساحة الطف وإن رخّص لهم بالانصراف والا إياهم طريق النجاة بأرواحهم، إلا انهم ابوا إلا أن يقدموا دونه كلّ عزيز؛ إذ هو عندهم اعزُّ عزيز.
التحق اصحاب الامام الحسين بالحسين من عرب الشمال وعرب الجنوب، من كل قبيلة وعشيرة، وكان فيهم رجل من وجوه الشيعة ومن اصحاب امير المؤمنين علي (عليه السلام) اسمه "جندب بن حُجر الخولاليّ الكنديّ"، ما أن سمع بمسير الامام الحسين (عليه السلام) الى العراق حتى خرج ليوافيه في طريقه الى كربلاء، منظماً الى قافلته، وموافقاً اياه في سفره، وذلك قبل التقاء اصحاب الحسين سلام الله عليه بجيش الحرّ بن يزيد الرياحيّ، فجاء جندب بن حجر مع ابي عبد الله الحسين الى كربلاء، وحطّ رحاله فيها معه، ليكون بعد ذلك مشمولاً بزيارة الشهداء الذين حلوا بفناء ابي عبد الله الحسين وأناخوا برحله، فيهدى اليهم السلام من افواه المؤمنين الموالين آناء الليل وأطراف النهار.
وقد حلّ يوم عاشوراء، وجُندب بن حُجر الخولانيّ ثابت مع الاصحاب على ارض كربلاء، ينتظر هو واخوانه الابرار ان يتشرفوا بأمر ٍ او اشارة او اذن يتفضلُ به سيّد شباب اهل الجنة عليهم، لينطلقوا في ساحة الفداء والشهادة يُرضون بذلك ضمائرهم ولم يكن يرضيها الا التضحية بكل شيء، من أجل أعزّ كل شيء.
وكانت الحملة الاولى، فهبّ الاصحاب فيها وجندب بن حُجر فيهم ومعهم، فكان من اوائل من وقع على الارض شهيداً بل ارتفع الى آفاق السماء مرضياً، والى جنبه استُشهد ولده حُجير بن جندب في اول القتال ايضاً، اي في بداية الحملة الاولى التي سبقها الامام الحسين صلوات الله عليه نادى باصحابه وقد اصابتهم سهام القوم رشقا ً كالمطر (رحمكم الله) الى الموت الذي لابد منه؛ فإن هذه السهام رسُل القوم الينا!
فما اسرع ان قاموا وفيهم جندب الخولاني وابنه حجير، وما اسرع ما حملوا حملة الرجال الابطال، وما اسرع ما نالوا مناهم بالشهادة بين يدي ابي عبد الله الحسين سلام الله عليه.
ثم تأتيهم اسباب الشرف والسعادة من كل جانب، حتى ليقف وليُّ العصر، وصاحب الامر، المهدي المنتظر، عجل الله تعالى فرجه الشريف، على قبورهم، فيزورهم، ويخصّهم بذكر اسمائهم، ويؤبنهم ويذكر مقامهم، فكان من زيارته قوله: السلام على جندب بن حُجر الخولاني ّ.
وهناك ضمائر كانت غافلة او جاهلة، او مضللة، ولما كان الامام الحسين صلوات الله عليه حجة الله وحجة الحجج الحقّ، والحجة البالغة على الخلق، فقد احرج عسكر عمر بن سعد ببراهينه وادلته واحتجاجاته، لذا حاولوا الانكار والتنكر للحقائق، والمغالطة والجدال الباطل، وخشي عمر بن سعد على جنوده من ان يتزلزلوا امام خطب الامام الحسين (عليه السلام)، لذا وضع سهم الفتنة في كبد قوسه ورمى به نحو عسكر ابي عبد الله الحسين، وأشهد أصحابه بقوله: إشهدوا لي عند الامير أنيّ أولُ من رمى؛ ليقطع على الامام الحسين حججه التي تسرّبت الى القلوب وأخذت تُعمل فيها آثارها، فحاول ابن سعد التعجيل بالقتال وحسم نزاع الحجج والبراهين وقد أقيمت على القوم. حتى مال الحرّ الرياحي هو وابنه الى عسكر الحسين (عليه السلام) مُنسلاً من عسكر ابن سعد، وكان لا يتوقع، انّ معركة ستقع!
وكان ممن مال ايضاً الى جهة سيد الشهداء ابي عبد الله الحسين رجل اسمه جُوين بن مالك الضُبعيّ، وذلك لما رأى جيش عمر بن سعد لم يُنصفوا الحسين (عليه السلام) بردِّ شروطه ودلائله، فنهض بجسمه وقلبه ليرحل مع من رحل ليلاً الى الامام الحسين صلوات الله عليه.
اجل، لقد حكّم جُوين بصيرته، فرأى ان يقدم بحزم على نصرة سبط رسول الله الحسين، ووصيه ووريثه الحق، الحسين ابن علي وابن فاطمة، فمال بكُله الى جهة الامام النيرة يقاتل دونها، مقدماً روحه ـ وهي اعزّ ما يملك ـ بين يدي مولاه ـ وهو اعزُّ من في الوجود وانتظر جوين بن مالك قليلاً ليتقدم نحوه التوفيق العظيم، فتحين له فرصة التضحية والفداء والشهادة، حتى اذا حانت لم يتردد، ولم يتأخر، فما اسرع أن سارع يقاتل في الصف الذي يحبه الله ورسوله، وهو بنيان مرصوص بالايمان والشجاعة والبصيرة والغيرة والتسليم والنصرة واحتدم القتال ساعة، وانجلت الغبرة بعد ساعة، وإذا بخمسين شهيداً مضرجين من اصحاب الامام الحسين (عليه السلام) وعليهم، كان من بينهم جوين بن مالك الضبعي رضوان الله عليه، بعد ان كان قبل قليل معهم وفيهم، يقاتل بينهم، فخلد ذكره في لوحة الشهداء، يزوره المؤمنون على مدى السنين والقرون، يقال له ولهم: السلام عليكم ايها الشهداء الصابرون، اشهد انكم جاهدتم في سبيل الله، وصبرتم على الاذى في جنب الله، ونصحتم لله ولرسوله، حتى اتاكم اليقين. اشهد انكم أحياء عند ربكم ترزقون، فجزاكم الله عن الاسلام واهله افضل جزاء المحسنين، وجمع بيننا وبينكم في محلّ النعيم.
واما جوين، فيخصُّه الامام المهدي سلام الله عليه بسلامه الخاص في زيارته الخاصة لشهداء يوم عاشوراء، فيقول: السلام على جوين بن مالك الضُّبعيّ.