السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى اولاد الحسين، وعلى اصحاب الحسين.
عدة من اصحاب البصائر وفقوا لان يُصاحبوا الامام الحسين (عليه السلام) بأبدانهم وقلوبهم، وعدة منهم وفقوا لان يصاحبوه بأرواحهم فحسب؛ إذ كانوا عنه بعيدين، ولكنهم احبوه ووالوه واخلصوا له الى حد التضحية والشهادة، كان منهم: هاني ابن عُروة المذحجيّ، ذلك الرجل العريق، فقد كان هو وأبوه عروة صحابيين ومن وجوه الشيعة، واعيانها وزعمائها الكبار في الكوفة.
قال المؤرخ المسعودي: كان هاني بن عروة المرادي شيخ مراد وزعيمها، يركب في اربعة آلاف دارع، وثمانية آلاف راجل، فاذا أجابت مراداً أحلافها كان هاني في ثلاثين الف دارع.
نعم، وقد ادرك هاني رسول الله صلى الله عليه وآله وتشرف بصحبته، ثم صار من أصحاب امير المؤمنين (عليه السلام)، فشارك معه في: الجمل وصفيّن والنهروان، وكان من رجزه يوم الجمل:
يالك حرباً جَثها جمالها
يقودها ـ لنقصها ـ ضلالها
هذا علي حوله أقيالها
ولهاني ابن عروة مواقف رجولة ونُبل وشهامة، إذ لما همّ معاوية بقتل حُجر بن عديّ شفّع هاني فيه زياد ابن ابيه.
ويوم طلب معاوية كثير بن شهاب المذحجي وهدر دمه ودم هاني لما خبأه عنده، باغته هاني لما حضر مجلسه ولم يعرفه معاوية، وقال له: أنا اليوم اعز مني من ذلك اليوم، سأله معاوية: بم ذلك؟
أجابه هاني: بالاسلام. ثم شفّعه في ترك كثير بن شهاب عن قتله.
وحين قدم مسلم بن عقيل رضوان الله عليه الى الكوفة، آواه هاني ابن عروة في داره، وكان مسلم قد انتقل الى دار هاني بعد ان كان في دار المختار الثقفيّ؛ لما انتهى اليه من مجئ عبيد الله بن زياد وتهديداته.
حتى اذا علم ابن زياد عن طريق جاسوسه (معقل) باختفاء مسلم في بيت هاني بن عروة، بعث على هاني وعاتبه بشدة ولامه وتجاسر عليه، ثم هدده: والله لا تفارقني ابداً حتى تأتيني بمسلم.
اجابه هاني بقوله الحازم: لا والله لا اجيبك به ابدا ً، أجيبك بضيفي تقتله؟!
ثم كان الحاح من هنا واصرار من هناك، وحاول مسلم بن عمرو الباهلي اقناع هاني له: انشدك الله ألا تقتل نفسك وتُدخل البلاء على عشيرتك.
فأجابه هاني: والله ان عليَّ في ذلك الخزي والعار ان ادفع جاري وضيفي والله لو لم يكن لي إلا واحد ليس لي ناصر، لم ادفعه حتى اموت دونه.
فلما رأى عبيد الله إصرار هاني بن عروة هدده بشدة: والله لتأتينيّ به او لأضربنّ عنقك، فقابله عروة بتهديد أشد ّ: إذا ً والله تكثر البارقة حول دارك (اي السيوف). هذا وهاني يظنّ أن عشيرته مذحجا ً ستنصره وتخلصه. فصاح عبيد الله: والهفاه! أبالبارقة تخوفني؟!
ثم صاح: أدنوه منيّ. فأدنوه، فاستعرض وجه هاني بالرمح حتى مزقه ونثر لحمه جبينه وخده لحيته وكسّر عظام وجهه، فغضب هاني ومد يده على قائم سيف شرطيّ، فجاذبه الرجل ومنعه، ثم أمر به عبيد الله فألقوه في غرفةٍ أغلقوا عليه بابها.
ولما شاع خبر انّ هاني بن عروة قد قُتل، أقبل عمرو بن الحجاج في جمع من قبيلة مذحج، فأحاطوا بقصر عبيد الله، الذي وسّط شريح القاضي في خدعةٍ أطلاها على قبيلة هاني، وهاني يسمع الضجة على باب القصر وهو يقول: يا الله يا للمسلمين! أهلكت عشيرتي؟! أين اهل الدين، أين أهل المصر؟! والدماء تسيل من لحيته، وهنا خرج هاني خرج على اهل مذحج فهدأهم، وردّهم بعد ان طمأنهم على حياة هاني، فانصرفوا.
حتى اذا استطاع عبيد الله بن زياد من قتل مسلم بن عقيل، خلا له الجو فأخذ يفكر بقتل هاني بن عروة، فنادى على جلاوزته: أخرجوه الى السوق وأضربوا عنقه.
فأخرج هاني رضوان الله عليه مكتوفاً وهو يقول: وامذحجاه! ولا مذحج لي اليوم! فلما لم يجد من ينصره، جذب يده فنزعها من الكتاف، وصاح صيحة العزيز في نفسه وقومه: أما من عصاً أو سكين تو حجارة او عظم ٍ يدافع به رجل عن نفسه؟!
فوثبوا اليه فشدوه وثاقاً، وقيل له: مُدَّ عنقك، فقال: ما انا بها بسخيّ.
فأبى الذلة وأنهى حياته بالعزة والكرامة يقول لقتلته: ما انا بمعينكم على نفسي. فتقدم اليه شقيّ كان مولى لعبيد الله بن زياد، فضربه بالسيف فلم يصنع فيه شيئاً، فقال هاني: الى الله المعاد، اللهم رحمتك ورضوانك. فضربه ذلك الشقي أخرى فقتله.
وفي طريق كربلاء، يلتحق بالركب الحسيني: عبد الله بن سليمان، والمنذر بن المشمعل الاسديان. يوافقانه في (الثعلبية )، فيخبران الامام الحسين (عليه السلام) بشهادة مسلم بن عقيل وهاني بن عروة رضوان الله عليهما، وأنهما جُرّا في السوق بارجلهما.
فأخذ الاسى مأخذه من ابي عبد الله الحسين صلوات الله عليه، فقال متألماً: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ». (رحمة الله عليهما) يردد (عليه السلام) ذلك مراراً. ويأتي الشاعر الموالي ليقول في مسلم وهاني:
فإن كنت لاتدرين مالموت فانظري
الى هانئ ٍ في السوق وابن عقيل ِ
الى بطل ٍقد هشّم السيف وجهه
وآخر يهوى من طمار ِ قتيل ِ
أصابهما أمر اللعين فاصبحا
احاديث من يسري بكلّ سبيل ِ
تري جسداً قد غير الموت لونه
ونضح دم ٍ قد سال كلَّ مسيل ِ
وكان من دناءة عبيد الله بن زياد وجاهليته العريقة وتملقه للطغاة، أن بعث برأسي مسلم بن عقيل وهاني بن عروة الى يزيد بن معاوية الذي يتلذذ بقتل الاولياء.
أجل، وكانت شهادة هاني بن عروة الذي يعتبر من اصحاب الامام الحسين، والمخلصين الاوفياء له، في الثامن من ذي الحجة سنة ستين من الهجرة الشريفة وهو اليوم الذي خرج فيه الامام الحسين سلام الله عليه من مكة متوجهاً الى العراق، وعمر هاني يومذاك بضع وتسعون سنة، وقيل: تسع وثمانون، وقيل: ثلاث وثمانون سنة، وكان يتوكأ على عصاه لكبره. فرضوان الله تعالى عليه وشكر الله له نصرته لنهضة مسلم بن عقيل رضي الله عنه وكان ذلك كله في مقدمة النهضة الحسينية المباركة.