ولهفي على انصاره وحماته
وهم لسراحين الفلاة موائد
مضمخة اجسادهم... فكأنما
عليهن من حمر الدماء مجاسد
تضيءبهم اكناف عرصة كربلا
وتظلم منهم اربع ومشاهد
فيا كربلا طلت السماء... وربما
تناول عفواحظ ذي السعي ماجد
لانت وان كنت العلية نلت من
جوارهم مالم تنله الفراقد
سررت بهم مذ آنسوك وساءني
محاريب منهم اوحشت ومساجد
«السلام عليكم يا اولياء الله واحباءه، السلام عليكم يا اصفياء الله واوداءه. السلام عليكم يا انصار دين الله، السلام عليكم يا انصار رسول الله، السلام عليكم يا انصار امير المؤمنين، السلام عليكم يا انصار فاطمة سيدة نساء العالمين. السلام عليكم يا انصار ابي محمد الحسن ابن علي الولي الناصح، السلام عليكم يا انصار ابي عبد الله. بابي انتم وامي، طبتم، وطابت الارض التي فيها دفنتم، وفزتم فوزاً عظيماً، فياليتني كنت معكم، فافوز معكم».
بعد انتهاء واقعة عاشوراء، وفي اليوم ذاته، امر عمر بن سعد بقطع رؤوس الشهداء، فقطعت، واقتسمتها القبائل لتتقرب بها الى عبيد الله بن زياد... فجات كندة بثلاثة عشر ـ وصاحبهم قيس بن الاشعث، وجاءت هوازن باثني عشر ـ وصاحبهم شمر بن ذي الجوشن، وجاءت تميم بسبعة عشر، وبنو اسد بستة عشر، ومذحج بسبعة، وجاء اخرون بباقي الرؤوس، ومنعت عشيرة الحر الرياحي من قطع راسه، او رض جسده. وسرّح ابن سعد راس سيد شباب اهل الجنة، ابي عبد الله الحسين صلوات الله عليه مع خولي بن يزيد الاصبحي وحميد بن مسلم الازدي، وسرح رؤوس اهل بيت الحسين وصحبه مع الشمر وقيس بن الاشعث وعمرو بن الحجاج.
واقام عمر بن سعد بقية يوم العاشر من المحرم في كربلاء، واليوم الثاني الى زوال الشمس، فجمع قتلاه الذين وردوا الجحيم وصلى عليهم ودفنهم، وترك ريحانة المصطفى ومن معه من اهل بيته وصحبه تعمل في ابدانهم حرارة الشمس، وتسفي عليهم رياح الصحراء ارتحل عمر بن سعد الى الكوفة، ومعه عيالات الحسين وصبيته وعيالات الاصحاب وكنّ عشرين امراة بين ارملة وثكلى، جاء بهم اسرى سبايا يسيرهن على اقتاب الجمال بغير وطاء، كما يساق سبي الترك والروم، ومعهم علي بن الحسين عليلا انهكته العلة على بعير ظالع هو وولده الباقر وعمره سنتان وشهور، وجمع من الصبية والصبيات ايتاما حيارى.
في (بحار الانوار) للعلامة المجلسي عن الامام جعفر الصادق عليه السلام قال: «اصبحت يوما ام سلمة تبكي، فقيل لها: مم بكاؤك؟
فقالت: لقد قتل ابني الحسين الليلة، فرايته شاحبا كئيبا؟
فقلت: ما لي اراك ـ يا رسول الله ـ شاحبا كئيبا؟
قال: ما زلت الليلة احفر القبور للحسين واصحابه».
وكان اليوم الثالث عشر من المحرّم، فينهض الامام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام بعزم الامامة، رغم ما نزل به من النكبات والمصائب العظمى، ويخرج من السجن صبيحة ذلك اليوم بأعجاز الامامة؛ ليذهب الى كربلاء يدفن فيها تلك الاجساد الزاكية التي توزعت ـ مقطعة مضرجة ـ على صعيد الطفّ.
وكان الامام الحسين عليه السلام قد أفرد خيمة في حومة الميدان، فكان يأمر بحمل من يُستشهد من صحبه وأهل بيته الى تلك الخيمة، وكلما أوتي له بشهيد قال: قتلة مثل قتلة النبيين، وآل النبيين.
وكان أمير المؤمنين عليه السلام قد وصفهم من علم الغيب بأنهم سادة الشهداء في الدنيا والاخرة، لم يسبقهم سابق، ولا يلحقهم لاحق.
وحدّث رجل من بني اسد انه أتى المعركة بعد ارتحال العسكر, فرأى من تلك الجسوم المضرجة أنوارا ً ساطعة، وروائح طيبة زاكية، يتوسطهم سيد الشهداء أبو عبد الله الحسين وهم يُحدقون به كأنهم يطوفون حوله. ومما زاد في حيرة الاسدي وتعجبه أنه رأى عند انتصاف الليل شموعا ً مُسرجة بين الاجساد الطاهرة، كما سمع بكاء وعويلاً مفجعاً.
وأقبل الامام السجاد علي بن الحسين عليه السلام لدفن أبيه الشهيد؛ لأن الامام لا يلي أمره الا إمام. وقد وجد عليه السلام بني اسد مجتمعين عند القتلى متحيرين، لايدرون ماذا يصنعون وهم لم يهتدوا الى معرفة الاجساد وقد فُرق بينها وبين الرؤوس، فأخبرهم عليه السلام عمّا جاء اليه من مواراة هذه الجسوم الطاهرة، وجعل يقول لهم: هذا فلان وهذا فلان... والاسديون يوارونهم. ثم عطف على جثث الانصار فحفر لهم حفيرة واحدة وواراهم فيها، إلا ّ حبيب بن مظاهر، فدفنه في ناحية عن الشهداء. أما الحرّ الرياحي، فكانت عشيرته قد نقلته الى حيث مرقده الان؛ لانه امه كانت حاضرة.
وهكذا اوقف الامام علي بن الحسين عليه السلام بني أسد ٍ على أسماء الشهداء، وعرفهم بالهاشميين من الاصحاب، وقد ارتفع البكاء والعويل، وسالت الدموع منهم كل مسيل.. وكان يوم عزاء في بني اسد ٍ هناك.
فلما فرغوا من المواراة، ركب ذلك الفارس الذي لم يعرفوه جواده، فتعلق به الاسديون وقالوا له: بحقّ من واريته عليك، من انت؟
فقال لهم: انا حجة الله عليكم، انا علي بن الحسين، جئت لاواري جثة ابي ومن معه، والآن راجع الى سجن عبيد الله بن زياد. فودعهم وانصرف عنهم، ورجع الاسديون مع نسائهم الى حيّهم. وبقيت القلوب متوهجة الى الشهداء تبعث اليهم كلمات المحبة والولاء، وتزورهم من قريب وبعيد:
«السلام على الارواح المنيخة بقبر ابي عبد الله الحسين... السلام عليكم ياطاهرين من الدنس، السلام عليكم يا مهديّين، السلام عليكم يا ابرار الله، السلام عليكم وعلى الملائكة الحافّين بقبوركم اجمعين. جمعنا الله واياكم في مستقر رحمته وتحت عرشه، انه ارحم الراحمين». والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.