هُمْ فتية خطبوا العلى بسيوفهم
ولها النفوس الغاليات مهورُ
فرحوا وقد نُعيت نفوسهم لهم
فكان لها ناعي النفوس بشيرُ
واستشفعوا بالموت نيل مرامهم
والكلُّ منهم ضاحك مسرورُ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، آجركم الله، وتقبّل طاعاتكم وأعمالكم... إن ملحمة كربلاء الحسين، لوحة تاريخية سماوية فريدة، لم يكن لها مثال من قبل، ولم يأت لها مثيل من بعد. تباعد ت فيها قلوب وأنفس وأرواح وضمائر، وتقاربت فيها أخرى، فكان للولاية والولاء لآل الله شطر، وللولاء لآل أعداء الله شطرٌ آخر.
وقد ضمّ الامام الحسين صلوات الله عليه الى جُنْح عسكره كلَّ طيّب ٍ أصيل مُحب ٍ لرسول الله وآل رسول الله، فائتلفوا على محبة الله، كما نقرأ في (الزيارة الجامعة الكبيرة ) للامام الهادي عليه السلام حيث نخاطب محمدا ً وآل محمد صلوات الله عليه وعليهم قائلين: «بموالاتكم تمَّت الكلمة،وعظمت النعمة، وائتلفت الفُرقة».
وتحقق ذلك في الركب الحسيني الشريف، حيث التحق به الشاب والكهل، والرجل والمرأة، والاهل والصديق، والقريب والبعيد، والمسلم وغير المسلم، والعربي وغير العربي... وكان بهم شاب من صفوة الاتراك لسمه (أسلمُ بن عمرو)، غلام من تُرك الديلم قُرب قزوين، وكان يعرف اللغة العربية، وكان كاتبا ً وقارئا ً للقرآن.
لم يُقرّبه إلا ّ حبُّه لأهل بيت المصطفى صلى الله عليه وآله، وكانت تلك سعادته، وبهجته، حيث اشتراه الامام الحسين عليه السلام بعد عام خمسين من الهجرة النبوية الشريفة، وكان رقا ً، فوقف امام مولاه الحسين بخشوع يعرض خدمته قائلا ً: إني غلام تركي، أ ُتقن العربية وأ ُجيد الكتابة... فنظر اليه الامام الحسين نظرة الاولياء فقال له: جعلتك كاتبا ً لبعض حوائجي.
ولم يفارق أسلم التركي مولاه ابا عبد الله الحسين عليه السلام، فقد التحق به الى طف كربلاء، فإذا كان يوم القتال تقدّم هذا الغلام اليافع يرجو من مولاه أن يأذن له بالنزال، وقد انحنى يُقّبل قدمي امامه الحسين ويقول له: إئذن لي يا مولاي في القتال.
فيجيبه سيد شباب اهل اجنة قائلا ً له: قد وهبتك لولدي. وكأن الحسين سلام الله عليه يضع له الخيار أن يبقى مع عليّ بن الحسين من بعده؛ ليخدمه، فلا يجد نفسه مضطرا ً للقتال؛ إلا ّ أن اسلم أسرع نحو خيمة عليّ بن الحسين عليه السلام - وقد أقعده المرض - يستأذنه ايضا ً: سيدي، أستأذنت أباك، فوهبني اياك، وأنا أسألك ان تأذن لي في البراز الى قتال هؤلاء القوم.
فقال له زين العابدين عليّ بن الحسين: وأنا أعتقتك، فأنت حُرّ لوجه الله.
فيخرج أسلم التركي مبتهجا ً؛ إذ أصبح من الشرف السامي قاب قوسين أو أدنى، فعلى بركة الله، والى سبيله القويم، وبين يدي وليّ الله، أبي عبد الله الحسين عليه سلام الله.
الرقّ في أيدي الاولياء كانت سعادة لأسلم التركيّ، ثم الانعتاق كان تأهيلا ً لسعادة ٍ أخرى، فقد وهب الاختيار، فأختار نُصرة إمام زمانه حجة الحق تبارك وتعالى، سيد الشهداء، فلبس درعه، وحمل سيفه، وأطلق صوته في ساحة كربلاء:
البحرمن طعني وضربي يصطلي
والجو من سهمي ونبلي يمتلي
إذا حُسامي في يميني ينجلي
ينشقُّ قلبُ الحاسد المُبَجَّل ِ
فقال علي بن الحسين عليه السلام: ارفعوا طرف الخيمة لأنظر كيف يُقاتل. فكان أسلم نِعم َ المقاتل؛ إذ قتل بجولته جماعة.
أيُّ شرفٍ ذاك الذي يناله المرء حين يأذن له وليُّ الله الحسين بالقتال دفاعا ً عن حرمات الدين ومقدساته، وعن حريم الامام والامامة! وُفِّق لهذا ذلك الغلام التركي؛ لأنه والى آل الله وأحبّهم، وأطاعهم ولبّى دعوتهم، فنزل الى ساحة المعركة يقاتل حتى أجهده الظمأ وأعياه النِّزال، فأحاط به أولئك الجبناء وهو يجول وحيده ليس له من ظهير ٍ ولا نصير، فضربوه، وطعنوه، فسقط صريعا ً على رمال كربلاء.
فأقبل اليه الحسين مسرعا ً، وذلكم شرف آخر يحظى به أسلم، بل حظي أيضا ً بحزن ٍ قدسي ٍ انبعث من قلب الحسين، ودموع شريفة مقدسة ٍ انحدرت من عيني وليّ الله الحسين، وشرف آخر رفرفت له روح أسلم حين اعتنقه أبو عبد الله الحسين وكأنه أبنه، ووضع خدَّه الشريف على خد هذا الغلام الغريب، وكأن أسلم كان قد فاضت روحه الطاهرة، ثم عادت الى بدنه الممزق، فيعود اليه رمقه، ويفتح عينيه ليُمتِّعها بالنظر الى امامه وسيده الحسين، محاولا ً إطالته وقد غمره الامام بحنانه وعطفه، فتبسّم ابتسامة عبرت عن غاية شعوره بالسعادة العظمى وهو يشعر ان امامه يحبه ويحنّ عليه، فابتهجت روح أسلم وكانت تطير، فأمسك بها ليقول من أعماقه مفتخرا ً وهو يتمتم: مَن مثلي وابن رسول الله واضع خدَّه على خدّي؟!
كانت تلك آخر ما تلفظ به أسلم، شفع عبارته الاخيرة بأبتسامة ٍ عذبة ابتشر بها في وجه سيد شباب اهل الجنة، ثمّ فاضت نفسه الزكية، وصارت الى ربه هانئة رضية.
وإذا كان الامام الحسين سلام ربنا عليه قد مشى الى سبعة ٍ وقعوا صرعى على رمال طفّ ِ كربلاء.. فإن أسلم التركي كان أحدهم، وقد أبّنهم، وقرأ عليهم «فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً».
وإذا كان الامام المهدي صلوات ربنا عليه قد زار شهداء أهل بيته فأنه زار الاصحاب، وسلم من بينهم على اسلم وسمّاه باسمه الخاصّ، فقال: "السلام على سليمان مولى الحسين بن أمير المؤمنين، ولعن الله قاتله سليمان بن عوف الحضرمي".
وإذا رثى الشعراء شهداء الطف، فإنهم لم ينسوا أسلم التركي، حيث خصّه أحد الادباء بقصيدة يقول فيها واصفا ً إياه:
بطل نشا في بيت آل محمد ٍ
ومع الحسين... فكان من أعوانهِ
هو (أسلم)... تبدوعليه شجاعة
موصوفة... تسمو على أقرانه ِ
طلب البراز... وراح يخطُرُللردى
متبسِّما ً... والعزم تهنُ ضمانهِ