"الحمدُ للهِ مؤيدِ المؤمنين، وأزكى الصلاةِ على رسولِ ربّ العالمين، وعلى آلهِ الأبرارِ الميامين".
السلامُ عليكم- إخوتنا وأعزّتنا- ورحمةُ اللهِ وبركاته.
الشجاعة هي نهضةَ لله تبارك وتعالى، منطلقةً من الغيرةِ على الحقّ والحرمات، ومقرونةً بالحكمة والبصيرة، ومقيدةً بالشرع الحنيف...فهي موقفٌ عزيز، ومطلوبٌ في الوقت المناسب، إحقاقاً للحقّ وإبطالاً للباطل، وبياناً للحقائق التي يراد لها أن تشوّهَ أوتُطمسَ معالمُها.
وأهل البيت النبويّ الشريف...محمّدٌ وآلُ محمّد صلواتُ الله عليهم، ظهرت منهم مواقفٌ شجاعة نصرتِ الإسلام وحفِظته، وأيقظت عقول المسلمين ونبّهتهم...مرّةً من خلال المعارك والحروب، وأخرى من خلال الصبر ِوالثبات، وثالثةً بالمداراة والتحمّل والصفح الجميل، ورابعة بالكلمة الصادعة والاحتجاج المبرهنِ ذي الدلائل القاطعة...كما كان من مولاتنا الصدّيقةِ الزهراء فاطمة صلواتُ ربّنا عليها بعد رحيل أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وانصراف الناس عن عقد بيعة الغدير، وتركِ من أوصى بخلافته وولايته اللهُ عزّوجلّ ونبيه، فنهضت سلامُ الله عليها تذكر وتعظُ وتُحذّر، وتُرشد إلى ما فيه صلاحُ الأمّة وسعادتها ونجاتها، تطرق بيوت الأنصار ومجالسَهم برفقةِ زوجها أميرالمؤمنين عليه السلام تطالبهم بالعودة إلى بيعتهمُ التي نقضوا ونكثوا عهدهم فيها...فاعتذروا أنّهم مضت بيعتُهم، حين كان عليٌّ مشغولاً بتجهيز النبيّ وتغسيله ودفنه، فأجابتهم فاطمةُ عليها السلام: "ما صنعَ أبوالحسنِ إلاّ ما كانِ ينبغي له، ولقد صنعوا- ما اللهُ حسيبهُم وطالبُهم" أي محاسبُهم عليه ومطالبُهم بما جنوا... كما روى ابنُ قتيبةَ هذا الموقف في كتابه (الإمامةُ والسياسة).
وكانت (فدك) ممّا نَحَله رسولُ الله صلى الله عليه وآله لفاطمةَ ابنته عليها السلام بأمرٍ من الله جلّ وعلا حين أنزل عليه قولَه: "وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ"، فجاء الأمر ونفذّه النبيّ، وبقيت هذه الأرض بيد الصدّيقة فاطمةَ سنوات، تُنفق منها وتتصدّق على الفقراء والمحرومين، فلمّا غصبت منها بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآلهِ لم تسكت عن ذلك وهي ترى تحريف الشرع وغصبَ الحقّ، فقامت في خطبةٍ جليلةٍ طويلةٍ تُثبتُ أنّ الأمر الذي أراده رسول الله ليس بيد أهله، وأنّ هنالك سلباً للحقوق... حقوق الله في عباده، وحقوق العباد في ذمّة الحكم، وأنّ انحرافاً خطيراً أخذ يدبّ في مجتمع الإسلام، فكان أن قالت في خُطبتها الفدكية الصادعة، والقاصعة في مجلس السلطة بعد ذكر فضائل أبيها وإصلاحاته: "فأنقذكم اللهُ تبارك وتعالى بمحمّدٍ صلّى الله عليه وآله بعدَ اللُّتيا والّتي، وبعدَ أن مُنيَ بِبُهمِ الرجال وذؤبانِ العرب ومردةِ أهل الكتاب، كلّما أوقدوا ناراً للحربِ أطفأها الله" إلى أن قالت عليها السلام: "فلمّا اختار اللهُ لنبيهِ دارَ أنبيائِه، ومأوى أصفيائه، ظهرَ فيكم حسيكةُ النفاق، وسَمَلَ جلبابُ الدين، ونطقَ كاظمُ الغاوين، ونَبَغ خاملُ الأقلّين، وهدرَفنيقُ المبطلين، فخطرَ في عرصاتِكم وأطلعَ الشيطانُ رأسَه من مغرزِه هاتفاً بكم، فألفاكم لدعوتِه مستجبين، وللغرّةِ فيه ملاحظين...هذا والعهد قريب، والكلمُ رحيب، والجُرحُ لمّا يندمِل، والرسولُ لمّا يقبَر... ".
وتمضي الزهراء- أيها الإخوةُ المؤمنون- في خطبتها توبّخ القاعدين عن الحق، والمتخاذلين والناكثين والمنافقين، فتوجّه كلامها إلى الأنصار تقول لهم:
"يا معاشرَ الفتيةِ وأعضاءَ الملةِ وأنصارَ الإسلام! ما هذه الغميزةُ في حقّي والسنّةُ في ظلامتي؟! أما كان رسول الله صلّى الله عليه وآله أبي يقول: ((المرءُ يحفظُ في وُلده))؟! سرعانَ ما أحدَثتُم، وعجلانَ ذا إهالة، ولكم طاقةٌ بما أحاول، وقوّةٌ على ما أطلبُ وأزاول! أتقولون مات محمّد صلّى الله عليه وآله؟!" إلى أن قالت سلام الله عليها: "أيهاً بني قيلة! أأُهضم تراثَ أبي وأنتم بمرأى منّي ومسمع، ومبتدأٍ ومجمع!...توافيكم الدعوةُ فلا تجيبون،وتأتيكم الصرخةُ فلا تغيثون..."
إلى أن ختمت خُطبتها الشجاعةً بقولها: "فدونكموها فاحتقبوها دبرةَ الظَّهر، نقبةَ الخُفِّ باقيةَ العار، موسومةً بغضب اللهِ وشنار الأبد، موصولةً بنار ِاللهِ الموقدة، الّتي تطّلعُ على الأفئدة. فبعينِ الله ما تفعلون، "وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ"، وأنا ابنةُ نذيرٍ لكم بين يدي عذابٍ شديد، فاعملوا إناّ عاملون، وانتظروا إنّآ منتظرون".