إخوتنا الأعزّة الأكارم... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قد يظهر من الناس كرم، ولكنّه يبقى محدوداً في أثره، أو مشوباً في نيته، أو متباعداً عن بركته. أمّا كرم أهل البيت النبويّ الشريف، فهو كرم منطلق عن طاعة الله تبارك و تعالى، ومؤدّى عن إخلاص، ومقترناً بالزهد والرحمة وحبّ الخير، ومستداماً بالبركات حتّى يصبح عند الناس رواية ومنقبة يتأسّى بها. وتلك أخلاق فاطمة الزهراء عليها السلام طفح فيها الجود والكرم، فلنستمع إلى إحدى الروايات في كرمها بعد هذه الوقفة القصيرة.
في كتاب (بشارة المصطفى لشيعة المرتضى) روى مؤلّفه محمّد بن أبي القاسم محمّد الطبريّ – من علماء الإمامية في القرن السادس الهجريّ – عن جابر بن عبدالله الأنصاريّ قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله صلاة العصر، فلمّا انفتل جلس في قبلته والناس حوله، فبينا هم كذلك إذ أقبل شيخ من مهاجرة العرب عليه سمل قد تهلّل وأخلق، وهو لا يكاد يتمالك كبراً وضعفاً، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وآله يستحثّه الخبر، فقال الشيخ: يا نبيّ الله، أنا جائع الكبد فأطعمني، وعاري الجسد فأكسني، وفقير فارشني. فقال صلى الله عليه وآله له: ما أجد لك شيئاً، ولكنّ الدالّ على الخير كفاعله، إنطلق الى منزل من يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله، يؤثر الله على نفسه، إنطلق الى حجرة فاطمة. وكان بيتها ملاصقاً لبيت رسول الله صلى الله عليه وآله الذي ينفرد به لنفسه من أزواجه.
فانطلق الشيخ ووقف على باب فاطمة، ونادى: السلام عليكم يا أهل بيت النبّوة ومختلف الملائكة، ومهبط جبرئيل الروح الأمين بالتنزيل من عند ربّ العالمين. فقالت فاطمة: وعليك السلام، فمن أنت يا هذا؟ قال: شيخ من العرب، أقبلت على أبيك سيد البشر مهاجراً من شقّة، وأنا – يا بنت محمد – عاري الجسد، جائع الكبد، فواسيني يرحمك الله.
فماذا كان من الصديقة فاطمة صلوات الله عليها؟
قال جابر الأنصاري مواصلاً روايته: وكان لفاطمة وعليّ في تلك الحال ورسول الله ثلاثاً ما طعموا فيها طعاماً، فعمدت فاطمة إلى جلد كبش مدبوغ كان ينام عليه الحسن والحسين، فقالت للشيخ: خذ هذا أيها الطارق، فعسى الله أن يرتاح لك ما هو خير منه، فقال: يا بنت محمد، شكوت إليك الجوع... فعمدت الى عقد كان في عنقها أهدته لها فاطمة بنت عمّها حمزة بن عبدالمطّلب، فقطعته من عنقها و قدّمته الى الشيخ وقالت خذه وبعه، فعسى الله أن يعوّضك به ما هو خير منه. فانطلق الشيخ إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله والنبيّ جالس في أصحابه، فقال: يا رسول الله، أعطتني فاطمة هذا العقد وقالت: بعه فعسى الله أن يصنع لك. قال جابر: فبكى النبيّ وقال: وكيف لا يصنع الله لك وقد أعطتكه فاطمة بنت محمد سيدة بنات آدم؟! فقام عمّاربن ياسر رضوان الله عليه يريد شراء العقد، قائلاً للشيخ: لك عشرون دينارا ومئتا درهم هجرية، وبردة يمانية، وراحلتي تبلغك أهلك، وشبعك من خبز البرّ واللحم. فقال الأعرابيّ: ما أسخاك بالمال أيها الرجل! وانطلق به عمّار فوفّاه ما ضمن له.
وعاد الأعرابي إلى رسول الله فقال له صلى الله عليه وآله: " أشبعت واكتسيت؟" قال: نعم واستغنيت، بأبي أنت وأمّي. قال: " فاجز فاطمة بصنيعها" ، فقال الأعرابيّ: اللهمّ إنّك إله ما استحدثناك، ولا إله لنا نعبده سواك، وأنت رازقنا على كلّ الجهات، اللهمّ أعط فاطمة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت. فأمّن النبيّ صلى الله عليه و آله على دعائه، ثمّ أقبل على أصحابه فقال: "إن الله قد أعطى فاطمة في الدنيا ذلك: أنا أبوها و ما أحد من العالمين مثلي، وعليّ بعلها، ولولا علي ما كان لفاطمة كفو أبدا، وأعطاها الحسن و الحسين، وما للعالمين مثلهما سيدا شباب أسباط الأنبياء، وسيدا شباب أهل الجنة" .