بسم الله الرّحمن الرّحيم…الحمدُ لله، وأشرف الصّلاة والسّلام على المصطفى حبيب الله، وعلى آله الهداة أولياءِ الله.
السلام عليكم- إخوتنا المؤمنين الأكارم- ورحمة اللهِ وبركاته، وأهلاً بكم في وقفةٍ أخيرةٍ عند (آية الإطعام) من سورة الإنسان، وهي قوله جلّ وعلا: "وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً"، حيث عرضنا في لقائنا السابق معكم – أيها الإخوة الأعزّة- بعض البيانات التفسيرية، والنصوص الروائية، وأشرنا إلى عددٍ كبيرٍ من المصادر السنية التي ذكرت قصّة الإطعام وسبب نزول آياتها في سورة (هل أتى)، فدعونا هذه المرّة- أيها الإخوة- نروى خبراً واحداً من كتب الشيعة.
جاء في (أمالي الصدوق) رحمه الله بإسناده إلى الإمام جعفر الصادق عليه السلام، عن أبيه الإمام محمّد الباقر عليه السلام، في ظلّ قوله تعالى:
" يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً". (سورة الإنسان الآية السابعة).
مرض الحسن والحسين عليهما السلام وهما صبيان صغيران، فعادهما رسول الله صلّى الله عليه وآله ومعه رجلان، فقال (أي النبيّ للامام عليّ عليهما الصلاة والسلام): "يا أباالحسن، لو نذرت في ابنيك نذراً، إن اللهُ عافاهما. فقال: أصومُ ثلاثة أيامٍ للهِ عزّوجلّ. وكذلك قالت فاطمة عليها السلام، وقال الصبيان (أي الحسنان): ونحن أيضاً نصوم ثلاثة أيام. وكذلك قالت جاريتهم فضّة ".
فألبسهما اللهُ عافية (أي الحسن والحسين عليهما السلام) فأصبحوا صياماً وليس عندهم طعام، فانطلق عليٌّ عليه السلام إلى جارٍ له من اليهود يقال له ((شمعون)) يعالج الصوف، فقال: هل لك أن تعطيني جزةً من صوفٍ تغزلها لك ابنة محمّدٍ بثلاثة أصوعٍ من شعير؟ قال: نعم. فأعطاه، فجاء بالصوف والشعير، فأخبر فاطمة عليها السلام'>فاطمة عليها السلام فقبلت وأطاعت، ثمّ عمدت فغزلت ثلث الصوف، ثمّ أخذت صاعاً من الشعير فطحنته وعجنته، وخبزت منه خمسة أقراص، لكلّ واحدٍ قرصاً.
وصلّى عليٌّ عليه السلام مع النبيّ صلّى الله عليه وآله المغرب، ثمّ أتى منزله، فوضع الخوان وجلسوا خمستهم، فأوّل لقمةٍ كسرها عليٌّ عليه السلام إذا مسكينٌ قد وقف بالباب فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمّد، أنا مسكينٌ من مساكين المسلمين، أطعموني ممّا تأكلون أطعمكم اللهُ على موائد الجنّة. فوضع اللقمة من يده…وعمدت فاطمة إلى ما كان على الخوان فدفعته إلى المسكين، وباتوا جياعاً، وأصبحوا صياماً لم يذوقوا إلاّ الماء القراح.
وتستمرّ الرواية، يتكرّر الموقف يتيمٍ ثمّ أسير، إلى أن تمّ صيام ثلاثة أيام موفين بالنّذر، بائتين جياعاً لم يفطروا إلاّ على الماء، حتّى إذا رأى رسول الله صلّى الله عليه وآله علياً والحسنين وهما يرتعشان كالفراخ من شدّة الجوع، ورأى فاطمة في محرابها قد لصق بطنها بظهرها، وغارت عيناها، ضمّها إليه وقال: واغوثاهُ بالله ! أنتم منذُ ثلاثٍ فيما أرى؟!
فهبط جبرئيل عليه السلام فقال: يا محمّد، خذ، هنيئا لك في أهل بيتك. فقال: ما آخذُ يا جبرئيل؟! قال: " هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً…"إلى أن تلا: "يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً{۷} وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً{۸} إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً…" إلى قوله تعالى بعد ذكر النعيم العظيم الذي أعدّه لهم: "إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً{۲۲} ".
والآن- أيها الإخوة الأحبّة- ألا يحقّ لنا أن نأخذ من هذه الآية المباركة (آية الإطعام) بعض المعاني والمفاهيم العالية، كحصيلةٍ نافعةٍ لنا من خلال اطّلاعنا على بياناتها ورواياتها؟!
كتب السيد ابنُ طاووس أعلى الله مقامه في (سعد السعود) يقول:
في هذه القصّة والسورة أسرارٌ شريفة …ثمّ ذكر ثمانية أسرار جاء فيها قوله: إنّه إذا كان القصدُ رضاء الله تعالى، هان كلُّ مبذول. وإنّ الله تعالى اطّلع على صفاءِ سرائر أهل البيت في الإخلاص، فجاد عليهم بخلع أهل الاختصاص (أي الهدايا الخاصّة). وإنّه لم ينزل مدحٌ في سورةٍ من القرآن كما نزلت فيهم عليهم السلام على هذا الإيضاح والبيان. وإنّ من تمام الإخلاص في الصدقات، أن لايراد من الذي يتصدّق عليه جزاءٌ ولا شكورٌ بحالٍ من الحالات. وإنّ الإيثار وقع من كثيرٍ من القرابة…فلم ينزل من الثناءِ ما نزل على مولانا عليٍّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام.
وكتب ابنُ شهر آشوب المازندرانيُّ السَّرَويّ في مؤلّفة (مناقب آل أبي طالب): إنّ عالماً سئل: إنّ الله تعالى قد أنزل ((هل أتي)) في أهل البيت، وليس من نعيم الجنّة إلاّ وذكر فيه، إلاّ الحور العين؟!
فقال: وذلك إجلالاً لفاطمة عليها السلام.
وأكد ذلك الآلوسيُ الشافعيّ في تفسيره (روح المعاني) حيث كتب: ومن اللطائف على القول بنزول السورة فيهم -يعني في أهل البيت- أنّه سبحانه لم يذكر فيها الحور العين، رعايةً لحرمة البتول، وقرّة عين الرسول.
فأيُّ مقامٍ للصدّيقة الزهراء فاطمة صلواتُ الله عليها حتّى حفظ اللهُ تبارك وتعالى حرمتها في كتابه المجيد، وبين آياته النازلة في ذكر النعيم، والجزاء العظيم؟! وأيُّ شأنٍ لها عندالله جلّ وعلا حتّى أنزل فيها آياتٍ بيناتٍ مباركات، تتلى آناء الّيل والنهار، فتصدع بفضائلها وفضائل أهل بيتها الأبرار.