بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله على ما وهب وأولى، وأزكى صلواته على النبيّ وآله أولي النُّهى والحجى والعُلى.
إخوتنا وأعزتنا المؤمنين…السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حياكم الله، وأهلاً بكم في أفقٍ جديد، من آفاق القرآن المجيد، مع جملة آياتٍ في فضائل الصدّيقة الزهراء، وأهل بيتها الطيبين الأزكياء، صلواتُ الله عليهم مطبّقةً ما بين الأرض والسماء.
الآية الأولى -أيها الإخوة الأعزّة- هي قوله تبارك وتعالى في سورة عبس: "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ* ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ"(الاية الثامنة والثلاثون والاية التاسعة والثلاثون)، وهو أول البيان في انقسام الناس يومئذٍ إلى: أهل السعادة، وأهل الشقاء… والآية المباركة إشارةٌ إلى أنّ أهل السعادة يعرفون بسيماهم في وجوههم، وإسفار الوجه هو إشراقه وإضاءته فرحاً وسروراً، واستبشاره هو تهلُّلُه بالبشرى. والآن- أيها الإخوة الأفاضل- هل من رواية، في ظلّ الآية؟
يجيبنا على ذلك الحافظ الحنفيُّ المذهب، المعروف بالحاكم الحسكانيّ، من كتابه المشهور (شواهد التنزيل لقواعد التفضيل)، حيث يأتي برواية مسندةٍ تنتهي إلى حمّاد بن سلمه، ينقلها عن ثابت، وثابتٌ هذا ينقلها عن أنس بن مالك الذي قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وآله عن قوله تعالى:
" "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ" فقال: "يا أنس، هي وجوهُنا - بني عبدالمطلّب-:أنا وعليّ، وحمزة وجعفر، والحسنُ والحسين وفاطمة. نخرج من قبورنا ونور وجوهنا كالشمس الضاحية يوم القيامة". قال الله تعالى: "وجوهٌ يومئذٍ مسفرة" يعني مشرقةٌ بالنور في أرض القيامة، "ضاحكةٌ مستبشرة"بثواب الله الذي وعدنا".
أمّا القميّ عليُّ بن إبراهيم في تفسيره عند إرادته بيان الآيتين الشريفتين، فإنّه أوردهما هكذا: ثمّ ذكر اللهُ عزّوجلّ الذين تولّوا أميرالمؤمنين عليه السلام وتبرؤوا من أعدائه، فقال: "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ* ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ" ثمّ ذكر أعداء آل محمّد فقال: "وجوهٌ عليها غبرة* ترهقها قترة" أي فقرٌ من الخير والثواب. ونحن هنا –ايها الاخوة- نقولمن كالزهراء فاطمة تولت اميرالمومنين ودافعت عنه وعن ولايته؟!
والآية الثانية- أعزّتنا الأكارم- قوله تعالى في (سورة المطفّفين):
"كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ"، قيل: ينطبق عليالدرجات العليا، ومنازل القرب القصوى من الله تبارك وتعالى.
أمّا الرواية –إخوتنا الأفاضل- فيأتي بها فراتُ الكوفيّ في تفسيره بسندٍ ينتهي إلى قول الإمام جعفر الصادق عليه السلام: "نزلت الآيات: "كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ"…(إلى قوله:) عيناً يشربُ بها المقرّبون (الآية الثامنة والعشرون) وهي خمسُ آياتٍ في النبيّ، وعليّ، وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام". وفي رواية أخرى في التعريف بالأبرار في هذه الآية قال عليه السلام: "هُم رسول الله، وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم الصلاةُ والسلام". وفي ظلّ الآية الكريمة تأتي- أيها الإخوة الأعزّة- رواياتٌ عديدة، تفصح وتبين، منها: ما رواه ابنُ شهر آشوب في (مناقب آل أبي طالب) عن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام قولُه: "كلُّ ما في كتاب الله عزّوجلّ من قوله: ((إنَّ الأبرار)) فوالله ما أراد به إلاّ عليَّ بن أبي طالب، وفاطمة وأنا والحسين". وكذا ما أورده الشيخ الكلينيّ في (الكافي) عن الإمام الباقر عليه السلام قوله: "إنّ اللهَ عزّوجلّ خلقنا من أعلى عليين، وخلق قلوب شيعتنا ممّا خلقنا منه، وخلق أبدانهم من دون ذلك، وقلوبهم تهوي إلينا، لأنّها خُلقت ممّا خلقنا". ثمّ تلا عليه السلام: "كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ{۱۸} وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ{۱۹} كِتَابٌ مَّرْقُومٌ{۲۰} يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ". وكذا ما أورده الشيخ الصدوق في (علل الشرائع) من قول الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الله تبارك وتعالى خلقنا من نور ٍمبتدعٍ من نور، سنخُ ذلك النور في طينةٍ من أعلى علّيين…".
ذلكم هُم أهلُ البيت صلوات اللهُ عليهم، وفيهم بضعة المصطفى، وقرينة المرتضى، وأمُّ الأئمّة مصابيح الدُّجى وأعلام التقى، فهي من ذلك النور الإلهيّ، ومن تلك الطينة القدسية المنبثقة عن أعلى عليين.
أمّا الآية الثالثة نعرضها-أيها الإخوة الأحبّة- في لقائنا هذا، فهي قوله تعالى: "إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ".(وهي الآية الأخيرة من سورة العصر)، قيل في معنى التواصي بالحقّ: هو أن يوصي بعضُهم بعضاً باتّباع الحقّ والدوام عليه، فليس دينُ الحقّ إلاّ اتّباعُ الحقّ: اعتقاداً وعملاً، والتواصي بالحقّ أوسعُ من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لشموله الاعتقاديات، ومطلق الترغيب والحثّ على العمل الصالح.
وهنا نترك البيان لابن عبّآس، حيث روى الحسكانيُّ الحنفيّ عنه في (شواهد التنزيل) قوله: جمع اللهُ هذه الخصال كلّها في عليّ:"إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا" كان-والله- أوّل المؤمنين إيماناً، "وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ" وكان أوّل من صلّى وعبداللهَ من أهل الأرض مع رسول الله صلّى الله عليه وآله، "وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ" يعني بالقرآن وتعلّم القرآن من رسول الله صلّى الله عليه وآله… "وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ" يعني: وأوصى محمّدٌ صلّى الله عليه وآله علياً عليه السلام بالصبر عن الدنيا، وأوصاه بحفظ فاطمة عليها السلام، وبجمع القرآن بعد وفاته، وبقضاءِ دينه، وبغسله بعد موته…وأوصاه بحفظ الحسن والحسين عليهما السلام، فذلك قوله: "وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ".
وحديث الصبر…صبر عليٍّ وفاطمة صلوات الله عليهما بعد رحيل رسول الله صلّى الله عليه وآله حديثٌ عجيب، يطول مقامُه، وتهيجُ آلامُه، حـتّى كان من الصدّيقة فاطمة ما كان من لواعج الحزن ومقاليد الصبر ما انتهى بها إلى الشهادة، بعد أن فُجعت بفقد أبيها المصطفى الذي ملأ الكون رحمةً ونوراً وحناناً وأبّوةً وخيرا…وفجعت بعزل وصيّ رسول الله وإيداعه البيت وقد غصب حقُّه الإلهيّ، ودفع عن مقامه الذي قدّره اللهُ له…وفجعت بمصائب جعلتها تقول:
صبَّت عليَّ مصائبٌ لو أنّها
صبَّت على الأيام صرن لياليا
فكانت تتصبّر وتوصي بالصبر هي وأهلُ بيتها الطيبون، صلوات الله عليها وعليهم جميعا.