بسم الله الرحمن الرحيم...الحمدُ لله الذي خلق عباده برحمته، ولرحمته، وأشرف الصلاة والسلام على أفضل خلقه وخيرته، المصطفى الأمين، سيد الأنبياء والمرسلين، وعلى آله أهل بيته وعترته.
إخوتنا الأعزّاء...السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أسعد الله أوقاتكم وأهلاً بكم في متابعةٍ لآية الإيثار، قوله عزّ من قائل:
"وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"(سورة الحشر:الاية التاسعة) صدق الله العليّ العظيم.
وقد بينّا- أيها الإخوة المؤمنون- أنّ الإيثار كان قد تجسّد في سيرة رسول الله صلّى الله عليه وآله وأخلاقه الكريمة، بل والعظيمة، فقد خاطبه الباري جلّ وعلا بقوله: "وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ"(سورة القلم:الاية الرابعة) ثمّ إنّ هذا الخلق الشريف قد عرف في أهل بيته وخاصّته: عليّ وفاطمة والحسن والحسين سلام الله عليهم أجمعين...في جميع حالاتهم وأحوالهم، ولوكان بهم خصاصة، والخصاصة، أيها الإخوة الأعزّة، هي الفقر، وقد بين سبحانه وتعالى أنّ إيثارهم ذاك لم يكن عن غنى أو وفرةٍ في المال، بل كان عن عوزٍ وقلّة، فكان ذاك أعظم لأجرهم وثوابهم عند الله جلّ وعلا، بل كان أسمى لفضلهم وشرفهم صلوات الله عليهم.
ولم يكتف أهل البيت عليهم السلام بالعطاء الماديّ، فقد قدّموا للرسالة وللرسول أنفسهم المقّدسة،...جاء في روايةٍ أنّ رسول الله قال لعليّ عليهما أفضل الصلاة والسلام في ليلة الهجرة: (أرضيت أن أُطلب فلا أوجد، وتوجد؟! فلعلّه أن يبادر إليك الجهّال فيقتلوك) فأجابه الإمام عليّ عليه اللسلام: "بلى يا رسول الله، رضيت أن يكون روحي لروحك وقاءا، ونفسي لنفسك فداءا". وفي روايةٍ أخرى قال النبيُ صلّى الله عليه وآله: "نزل عليَ جبرئيل صبيحة يومِ الغار، فقلت: حبيبي جبرئيل، أراك فرحاً؟! فقال: يا محمّد، وكيف لا أكون كذلك وقد قرّت عيني بما أكرم اللهُ به أخاك ووصيك وإمام أمّتك عليّ بن أبي طالب! فقلت: بماذا أكرمه الله؟ قال: باهى بعبادته البارحة ملائكته وقال: يا ملائكتي انظروا إلى حجّتي في أرضي بعد نبيي وقد بذل نفسه، وعفّر خدّه في التراب تواضعاً لعظمتي، وأشهدكم أنه إمام خلقي، ومولى بريتي".
وفي الصدّيقة الزهراء فاطمة عليها السلام، كان الإيثار من أوضح خصالها، فهي التي روى عنها ابنها الحسن المجتبى عليه السلام أنّها كانت تؤثر بالدعاء للمؤمنين والمؤمنات ولا تدعو لنفسها بشيء فسألها عن ذلك، فقالت: يا بنيّ، الجار...ثمّ الدار)). وهي التي طوت جوعاً ثلاثة أيآمٍ وثلاث ليالٍ مع أميرالمؤمنين علي عليه السلام حين آثرا على أنفسهما المقدّسة مسكيناً ويتيماً وأسيراً، فباتا جائعين صائمين، فأنزل الله جلّ وعزّ آية الإطعام.
وكذلك أنزل الله عزّوجلّ فيهما آية الإيثار...حيث روي أبوالفتوح الرازيّ في تفسيره (روض الجنان)، والحاكم الحسكانيّ في (شواهد التنزيل)، وابن شهرآشوب في (مناقب آل ابي طالب)، وغيرُهم عن الصحابيّ المعروف عبدالله بن مسعود، أنّ رجلاً قام من بين الصفّ بعد صلاة الجماعة فقال: أنا رجلٌ غريب فقير، فأطعموني فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: من الذي يكفي مؤونة هذا الرجل فيبوّؤه الله في الفردوس الأعلى؟ فقام عليٌّ عليه السلام وأخذ بيد السائل، وقال لفاطمة عليها السلام: يا بنت رسول الله، انظري في أمر هذا الضيف. فأخبرته أنّ الطعام قليلٌ لا يغني غير واحد، فقال لها: أحضريه.
فلمّا أحضرته رآه عليه السلام قليلاً، فمدّ يده إلى السراج فأطفأه، وقال لفاطمة عليها السلام: تعلّلي في إيقاده حتّى يحسن الضيف أكله ثمّ إيتيني به، فكان عليه السلام يحرّك فمه المبارك يري ضيفه أنّه يأكل، وهوعليه السلام لا يأكل، إلى أن فرغ الضيف من أكله وشبع...
فلمّا أصبح عليٌّ عليه السلام، أتى مسجد النبي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: يا عليّ، كيف كنت مع الضّيف؟ فأجابه عليه السلام: بحمد الله يا رسول الله بخير. فقال النبيّ له: إنّ الله تعالى تعجّب ممّا فعلت البارحة، فسأله عليه السلام: من أخبرك بهذا؟ قال جبرائيل، وأتى بهذه الآية في شأنك: "وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ".
وتتعدّد الروايات- أيها الإخوة الأحبّة - ولا ضير في ذلك ولا تعارض، إذ ربّما وردت الآية في بيان سبب النزول، أو في باب المطابقة، فيوم كان عليٌ وفاطمة صلوات الله عليهما في أشدّ الحاجة، أخذ عليٌ من رسول الله صلّى الله عليه وآله ديناراً ليشتري به شيئاً لبيته وقد خلا من الطعام، حتّى إذا وجد المقداد بن الأسود في المسجد وهو في حاجةٍ شديدة أعطاه ذلك الدينار، وبقي في المسجد حتّى أخبره النبيّ صلّى الله عليه وآله قائلاً له: أما إنّ جبرئيل قد أنبأني بذلك، وقد أنزل اللهُ فيك كتاباً: "وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ"...ذكرذلك الكراجكيّ في (كنز الفوائد)، فيما ذكر الرواية السابقة: الحسكانيُّ الحنفيّ في (شواهد التنزيل)، وابن المعمارالبغداديُّ الحنبليّ في كتابه (الفتوّة)، والتميميُّ المغربيُّ أبوحنيفة في (شرح الأخبار)...ومعظمهم رووا ذلك عن أبي هريرة، منهم: الحافظ الحاكم الحسكانيي الحنفيّ، الذي لم يكتف بهذه الرواية في ظلّ آية الإيثار، في كتابه (شواهد التنزيل)، حتّى أردفها بخبرٍ أسنده إلى عبدالله بن عبّاس أنّه قال في قوله تعالي: "وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ"، نزلت في عليٍّ وفاطمة والحسن والحسين. فسلامٌ عليهم يوم آثروا ضيفهم على أنفسهم القدسية الشريفة، فباتوا جياعا في طاعة الله تبارك وتعالى، وسلامٌ عليهم يوم تشرّف الوحي بذكرهم في آيةٍ نازلةٍ من النور الإلهيّ اشتهرت بآية الإيثار.